عندما يتحدث الصمت.. تترسخ القيم |
يعمل الدكتور "ميشيل أنتبي" أستاذًا للسلوك التنظيمي في جامعة "هارفارد"، ويتخصص في تشكيل السلوك الجمعي في المنظمات الحية. وقد نشر كتابًا طريفًا مؤخرًا بعنوان: "تصنيع الأخلاق: قيم الصمت في كليات إدارة الأعمال." وبعد قراءة عرض الكتاب على "أمازون" ومقابلة صحفية مطولة نشرتها مجلة "فوربز" كتبت مقولة إدارية جديدة تقول: "أخلاق العمل هي المقياس الوحيد الدقيق لثروات الشعوب. وبها فقط تستطيع أن تحدد مقدار ومستقبل ثروتك وثروة أمتك."
في هذا الكتاب الذي سنلخصه قريبًا، ابتكر "ميشيل أنتبي" مفهومًا جديدًا لن تجدوه في "ويكيبيديا" ولم يسمع به "جوجل" بعد، وهو مصطلح "الصمت الناطق" Vocal Silence. كان المؤلف ينتظر الحافلة قرب الجامعة ليعود إلى بيته، عندما شاهدته زميلة تعمل موظفة إدارية في الكلية، وسألته باستهجان: "دكتور أنتبي، هل تستخدم الحافلات دائمًا في تنقلاتك اليومية من الجامعة وإليها وأنت أستاذ في "هارفارد"!؟" فوجئ الدكتور بهذا التدخل السافر في شأن يبدو خاصًا جدًا، وقال: "لقد علمونا في هارفارد كيف ندرس وكيف نجلس وماذا نلبس، حتى أنهم حددوا لنا ألوان الأوراق التي نستخدمها وكيف نعلقها على الحائط، لكنهم لم ينهونا أبدًا عن ركوب الحافلات." فأجابته الإدارية الخبيرة: "الوقت.. إنه الوقت يا دكتور! مع كل المتطلبات اليومية والتوقعات العالية التي تفترضها جامعتنا، فإن وقتك أثمن من أن تقضيه في انتظار الحافلات." وهنا أدرك أستاذ السلوك التنظيمي أن الوقت قيمة ضمنية مسلم بها في جامعته التي يقال بأنها تضم أفضل كلية إدارة أعمال في العالم.
في يوم ثلجي عاصف من شتاء عام 1986 خرجت من محاضرة أستاذي الدكتور "ستانتون" في جامعة "ويسكنسن،" فإذا به يسير مسرعًا خارجًا من الجامعة ومتجهًا إلى بيته. توقفت بسيارتي الهوندا "سيفيك" التي أكلها الصدأ وسألته: "لماذا تعود إلى البيت ماشيًا يا دكتور؟" فهز رأسه الضخمة مبتسمًا وقال: "لم أستطع ركوب دراجتي الهوائية بسبب العاصفة الثلجية." لم يكن الدكتور يملك سيارة، وقد رفض أن أتكرم عليه بتوصيله إلى بيته وقال: "أنت ستوصلني اليوم! فمن سيوصلني غدا؟" فلم يكن مفروضًا على أستاذ جامعة حكومية أمريكية أن يقتني سيارة ما دام مستعدًا للسير على الأقدام في أجواء شبه قطبية.
في ذات الجامعة، وفي صيف ذلك العام، كنا نؤدي امتحان إدارة النظم في الطابق الحادي عشر من الكلية. وما إن تسلمنا أوراق الامتحان وقرأنا الأسئلة، حتى انطلق صوت جرس إنذار الحريق عاليًا. هبطنا – وكنا 12 طالبًا – من سلم الطوارئ إلى الطابق الأرضي ومكثنا حوالي عشرين دقيقة. ثم عدنا بالمصاعد وأكملنا امتحاننا، دون أن يتطرق أحد للأسئلة والامتحان، أو تسألنا الدكتورة أين ذهبنا وماذا فعلنا. كل ما طلبته منا هو أن نجيب عن أي سؤالين نختار من الأسئلة الثلاثة لأن ما تبقى من الوقت لا يكفي. لقد كان بيننا وبين الجامعة عقد سري مقدس وغير مكتوب، بأننا طلاب دراسات عليا ملتزمون، ومن العيب أن تراقبنا الجامعة حتى لا نغشها، فنخدع أنفسنا.
عندما تلتحق بالجامعة فأنت ذاهب لتتعلم بجد، وعندما تنضم إلى فريقك الوطني فأنت ستلعب بجد، وعندما تذهب إلى المكتب فأنت ستعمل بجد، وعندما ترتدي لباس الجندية فأنت ستدافع عن وطنك بجد، وعندما تترشح للانتخابات فأنت ستنوب عن ناخبيك بجد، وعندما تضع أمام اسمك حرف (دال) فأنت دكتور وعالم بجد، وعندما تصبح رئيس دولة أو وزير دولة أو سفير دولة فأنت ستقود بجد. فما هو ضمني واعتباري، أعلى وأقوى مما هو رسمي وإجباري. صحيح أن ما نكتبه في سطور رسائلنا وتقاريرنا وأدلة إجراءاتنا مهم، لكن ما لا نقوله وما نتركه ليوحي وينطق بين السطور، أهم.
يمكنني مثلاً أن أجبرك على الصلاة دون أن تخشع، وأن أحشرك في زنزانة السجن دون أن تركع، وأن أكرهك على الإنصات دون أن تسمع. ففي المجتمعات والمنظمات الناضجة والحكيمة والمسؤولة، فإن القيم تغرس ولا تفرض؛ إذ يتم شرح المطلوب وإعلان المرغوب بالإيحاء والإيماء، لا بالقهر والإملاء. فحين يكون الإنسان مسؤولاً والمنظمات والمجتمعات حية، فإن الفعل يصنع القول، والإنجازات تصنع السياسات.
ربما أنكم تسمعون الآن ما لا يقوله وائل غنيم وحمدي قنديل وعمرو حمزاوي. ولا تسمعون ما تقوله مانشيتات الأهرام والأخبار والناطق الرسمي. فعلى ذمة أستاذ السلوك الجمعي والتنظيمي الدكتور "أنتبي": لكي تترسخ قيم الأداء والعطاء في أية منظمة، وفي أي مجتمع حر، وكي لا تفرض بقانون طارىء أو بمسدس كاتم للصوت، يجب أن يتوقف الكلام ويخرس الإعلام، لينطق الصمت.
أ/ نسيم الصمادي |