بسم الله الرحمن الرحيم (يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } العلم درجات: أولها الصمت، والثانية الاستماع، والثالثة الحفظ، والرابعة العمل، والخامسة النشر ***مروان طاهات*** يرحب بكم ويكيبيديا الموسوعة المروانية MANT

الأحد، 4 نوفمبر 2018

سلسلة قصة التتار - 19





سقوط بخاري قصة التتار - الحلقة [5


الحرب كَرٌّ وَفَرٌّ، وقد يكون الثبات في أرض المعركة إلى نهاية المطاف مفسدة كبيرة؛ لأنه يعني قتل مزيد من المسلمين، دون إحداث نكاية في العدو؛ لذلك انسحب الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد ليعلمنا الواقعية في مثل هذا الموقف، وليتجهز بعد علاج الأخطاء لجولة جديدة يكون له فيها النصر بإذن الله.
لكنَّ «محمد بن خُوارِزم شاه» بعد أن انسحب بجيشه من معركته الدامية مع التتار التي استُشهد فيها من المسلمين عشرون ألفًا، ومات من التتار أضعاف ذلك، ذهب ليُحَصِّن مدنه الكبرى في مملكته الواسعة، واهتمَّ بتأمين نفسه وأسرته ومقرَّبيه، وتهاون كثيرًا في تأمين شعبه، وحافظ على كنوزه وكنوز آبائه، لكنه أهمل الحفاظ على مقدَّرات وأملاك شعبه،
ولم يُعد العدة والعتاد لمواجهة هذه القوة الشرسة، لذلك جهَّز جنكيزخان جيشه من جديد، وأسرع إلى اختراق الدولة الخُوارِزمية.  فتعالوا نتتبَّع خطواته في هذه البلاد المسلمة.
 #وصول_الننار_لمدينة_بخاري -
وصل جنكيزخان في تقدُّمه إلى مدينة بخارى المسلمة (في دولة أوزبكستان الآن)، وهي بلدة العالم الجليل، والمحدث العظيم الإمام البخاري (194-256هـ)، وحاصر جنكيز خان البلدة المسلمة في سنة (616هـ=1220م)، ثم طلب من أهلها التسليم على أن يُعطيهم الأمان.
وكان «محمد بن خُوارِزم شاه» بعيدًا عن بخارى في ذلك الوقت، فاحتار أهل بخارى: ماذا يفعلون؟-
#ثم_ظهر_رأيان أمَّا #الرأي_الأول فقال أصحابه: نُقاتل التتار ونُدافع عن مدينتنا.
• - وأمَّا #الرأي_الثاني فقال أصحابه: نأخذ بالأمان ونفتح الأبواب للتتار لتجنُّب القتل. وما أدرك هؤلاء أن التتار {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً}[التوبة: 10
-#انقسام :• - وهكذا انقسم أهل البلد إلى فريقين: فريقٌ من المجاهدين قرَّر القتال، وهؤلاء اعتصموا بالقلعة الكبيرة في المدينة، وانضمَّ إليهم فقهاء المدينة وعلماؤها.
* وفريقٌ آخر من المستسلمين، وهو الفريق الأعظم والأكبر، وهؤلاء قرَّرُوا فتح أبواب المدينة، والاعتماد على أمان التتار!
وفي (ذي القعدة 616هـ = فبراير 1219م) فتحت المدينة المسلمة أبوابها للتتار، ودخل جنكيزخان المدينة الكبيرة، وأعطى أهلها الأمان فعلًا في أول دخوله خديعةً لهم؛ وذلك حتى يتمكَّن من السيطرة على المجاهدين بالقلعة.
وفعلًا.. بدأ جنكيزخان بحصار القلعة، بل أمر
 أهل المدينة من المسلمين أن يُساعدوه على ردم الخنادق حول القلعة ليسهل اقتحامها، فأطاعوه وفعلوا ذلك! وحاصر القلعة عشرة أيام، ثم فتحها قسرًا، ولما دخلها قاتل مَنْ فيها حتى قتلهم جميعًا[1]! ولم يبقَ بمدينة بخارى مجاهدون.
وهنا بدأ جنكيزخان في خيانة عهده، فسأل أهل المدينة عن كنوزها وأموالها وذهبها وفضَّتها، ثم اصطفى كل ذلك لنفسه، ثم أحلَّ المدينة المسلمة لجنده؛ ففعلوا بها ما لا يتخيَّله عقل!
وأترُك ابن كثير يُصَوِّر لكم هذا الموقف كما جاء في (البداية والنهاية) فيقول:
• - «فقتلوا من أهلها خلقًا لا يعلمهم إلاَّ الله عز وجل، وأسروا الذرية والنساء، وفعلوا مع النساء الفواحش في حضرة أهليهن! (ارتكبوا الزنا مع البنت في حضرة أبيها، ومع الزوجة في حضرة زوجها)، فمن المسلمين مَنْ قاتل دون حريمه حتى قُتل، ومنهم مَنْ أُسر فعُذِّب بأنواع العذاب، وكثر البكاء والضجيج بالبلد من النساء والأطفال والرجال، ثم أشعلت التتار النار في دور بخارى  ومدارسها ومساجدها، فاحترقت المدينة حتى
 صارت خاوية على عروشها..»!
#انتهى كلام ابن كثير.. ولا حول ولا قوَّة إلا بالله! هلكت المدينة المسلمة! هلك المجاهدون الصابرون فيها.. وكذلك هلك المستسلمون المتخاذلون! عن أمِّ المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ»[2] .
وكان الخبث قد كثر في هذه البلاد؛ فمن الخبث ألا يرفع المسلمون سيوفهم ليُدافعوا عن دينهم وأرضهم وعرضهم.. ومن الخبث أن يُصَدِّق المسلمون عهود الكافرين لهم.. ومن الخبث أن يُسَلِّم المسلمون مَنْ رفعوا راية الجهاد فيهم إلى عدوِّهم.. ومن الخبث أن يتفرَّق المسلمون ويتقاتلوا فيما بينهم، ومن الخبث ألا يحتكم المسلمون إلى كتاب ربهم، وإلى سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم. هذا كله من الخبث! وإذا كثر الخبث، لا بُدَّ أن تحدث الهلكة! وصدق الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم..وهكذا هلكت بخارى في (ذي القعدة 616هـ = فبراير 1219م)! ولكن.. هل كانت هذه آخر المآسي؟! هل كانت آخر الكوارث؟! لقد كانت هذه أولى صفحات القصة؛ كانت بداية الطوفان وبداية الإعصار، وستكون صفحات القصَّة القادمة أشدَّ سوادًا وأكثر دماءً، سيدخل المسلمون في سنة (617هـ)، وهي -بلا شكٍّ- من أبشع السنوات وأسوئها وأظلمها التي مرَّت على المسلمين عبر تاريخهم الطويل.

الهجمة التترية الأولى سلسلة قصة التتار - الحلقة [4


جعل الله عز وجل الفشل قرينًا للتنازع، والاحتلال ملازمًا للوهن، وسنة الله في خلقه لا تتبدل ولا تتغير، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}[الأحزاب: 62].
بدأ التتار يُفَكِّرُون جدِّيًّا في غزو بلاد المسلمين، وبدءوا يُخَطِّطُون لإسقاط الخلافة العباسية، ودخول بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية، وفكَّر «جنكيزخان» في أن أفضل طريقة لإسقاط الخلافة العباسية في العراق هي التمركز أولاً في منطقة أفغانستان وأوزبكستان؛ لأن المسافة كبيرة بين الصين والعراق، ولا بُدَّ من وجود قواعد إمداد ثابتة للجيوش التترية في منطقة متوسطة بين العراق والصين، كما أن هذه المنطقة التي تُعرف بالقوقاز غنية بثرواتها الزراعية والاقتصادية، وكانت من حواضر الإسلام المشهورة، وكنوزها كثيرة، وأموالها وَفيرة، هذا إضافة إلى أنه لا يستطيع -تكتيكيًّا- أن يُحارب العراق وفي ظهره شعوب مسلمة قد تُحاربه أو تقطع عليه خطوط الإمداد.
كل هذه العوامل جعلت «جنكيزخان» يُفَكِّر أولاً في خوض حروب متتالية مع هذه المنطقة الشرقية من الدولة الإسلامية، التي تُعرف في ذلك الوقت بالدولة الخُوارِزمية؛ وكانت تضم بين طياتها عدَّة أقاليم إسلامية مهمَّة، مثل: أفغانستان وأوزبكستان وتركمنستان وكازاخستان وطاجكستان وباكستان وأجزاء من إيران، وكانت عاصمة هذه الدولة الشاسعة هي مدينة «أورجندة (الجُرْجانِيَّة[1])» (في تركمنستان حاليًّا).
وكان جنكيزخان في شبه اتفاق مع ملك خُوارِزم (محمد بن خُوارِزم شاه[2]) على حُسن الجوار[3]، ومع ذلك فلم يكن جنكيزخان من أولئك الذين يهتمُّون بعقودهم، أو يحترمون اتفاقياتهم، ولكنه عقد هذا الاتفاق مع ملك خُوارِزم ليُؤَمِّن ظهره إلى أن يستتب له الأمر في شرقيِّ آسيا، أما وقد استقرَّت الأوضاع في منطقة الصين ومنغوليا، فقد حان وقت التوسُّع غربًا في أملاك الدولة الإسلامية! ولا مانع -عنده طبعًا- من نقض العهد، وتمزيق الاتفاقيات السابقة؛ وهي سُنَّة في أهل الباطل: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}[البقرة: 100].
ولكن حتى تكون الحرب مُقنعة لكلا الطرفين، لا بُدَّ من وجود سبب يدعو إلى الحرب، وإلى الادِّعاء بأن الاتفاقيات لم تَعُدْ
سارية، وقد بحث «جنكيزخان» عن سبب مناسب، ولكنه لم يجد. ولكن -سبحان الله- لقد حدث أمر مفاجئ -بغير إعداد من جنكيزخان- يصلح أن يكون سببًا مقنعًا للحرب.
نعم، لقد جاء هذا السبب مبكِّرًا بالنسبة إلى إعداد جنكيزخان ورغبته، ولكن لا مانع من استغلاله، ولا مانع -أيضًا- من تقديم بعض الخطوات في خُطَّة الحرب، وتأخير بعض الخطوات الأخرى. لقد ذهبت مجموعة من تجَّار المغول إلى مدينة «أوترار (أطرار)» الإسلامية في مملكة خُوارِزم شاه.. ولما رآهم حاكم المدينة المسلم، أمسك بهم وقتلهم[4]!
أمَّا عن سبب قتلهم.. فقد اختلف المؤرخون في تفسير هذه الحادثة:
فمنهم مَنْ يقول: إن هؤلاء ما كانوا إلاَّ جواسيس أرسلهم جنكيزخان للتجسُّس على الدولة الإسلامية أو لاستفزازها؛ لذلك قتلهم حاكم مدينة أوترار.
ومنهم مَنْ يقول: إن هذا كان عمدًا كنوع من الردِّ على عمليات للسلب والنهب قام بها التتار في بلاد ما وراء النهر، وهي بلاد خُوارِزمية مسلمة.
ومنهم مَنْ يقول: إن هذا كان فعلاً متعمدًا بقصد استثارة التتار للحرب؛ ليدخل خُوارِزم شاه بعد ذلك منطقة تركستان، وهي في ملك التتار آنذاك. وإن كان هذا الرأي مستبعدًا؛ لأن «محمد بن خُوارِزم شاه» لم تكن له أطماع تُذكر في أرض التتار، وكل ما كان يُريده هو العهد على بقاء كل فريق في مملكته دون تعدٍّ على الآخر، وليس من المعقول أن يستثير التتار؛ وهو يعلم أعدادهم وجيشهم، وليس من المعقول -أيضًا- أنه لم يكن يدري عن قوَّتهم شيئًا وهم الملاصقون له تمامًا، وقد ذاع صيت زعيمهم «جنكيزخان» في كل مكان.
ومن المؤرخين -أيضًا- مَنْ يقول: إنما أرسل جنكيزخان بعضًا من رجاله إلى أرض المسلمين ليقتلوا تجار التتار هناك؛ حتى يكون ذلك سببًا في غزو البلاد المسلمة، وإن كان هذا الرأي لا يقوم عليه دليل. ومنهم مَنْ قال: إن خُوارِزم شاه طمع في أموال التجار فقتلهم لأجلها
كل هذه احتمالات واردة؛ لكن المهم في النهاية أن التجار (أو الجواسيس) قد قُتلوا، ووصل النبأ إلى جنكيزخان، فأرسل رسالة إلى «محمد بن خُوارِزم شاه» يطلب منه تسليم القتلة إليه حتى يُحاكمهم بنفسه، ولكن «محمد بن خُوارِزم شاه» اعتبر ذلك تعدِّيًا على سيادة البلاد المسلمة؛ فهو لا يُسَلِّم مجرمًا مسلمًا ليُحاكم في بَلدة أخرى بشريعة أخرى، غير أنه قال: إنه سيُحاكمهم في بلاده؛ فإن ثبت بعد التحقيق أنهم مخطئون عاقبهم في بلاده بالقانون السائد فيها وهو الشريعة الإسلامية.
وهذا الكلام وإن كان منطقيًّا ومقبولاً في كل بقاع الأرض؛ فإنه بالطبع لم يكن مقنعًا لجنكيزخان، أو قل: إن جنكيزخان لم يكن يرغب في الاقتناع؛ فليس المجال مجال حجة أوبرهان أو دليل؛ حقيقة الأمر أن جنكيزخان قد أعدَّ لغزو بلاد المسلمين خُططًا مسبقة، ولن يُعَطِّلها شيء، وإنما كان يبحث فقط عن علَّة مناسبة، أو شبه مناسبة، وقد وجد في هذا الأمر العلَّة التي كان يُريدها.
وبدأ الإعصار التتري على بلاد المسلمين!
بدأت الهجمة التترية الأولى على دولة خُوارِزم شاه، وجاء جنكيزخان بجيشه الكبير لغزو خُوارِزم شاه، وخرج له «محمد بن خُوارِزم شاه» بجيشه أيضًا، والتقى الفريقان في موقعة شنيعة استمرَّت أربعة أيام متصلة، وذلك شرق نهر سيحون (وهو يعرف الآن بنهر «سرداريا»، ويقع في دولة كازاخستان المسلمة)، وقُتل من الفريقين خلق كثير؛ لقد استُشهد من المسلمين في هذه الموقعة عشرون ألفًا، ومات من التتار أضعاف ذلك، ثم تحاجز الفريقان، وانسحب «محمد بن خُوارِزم شاه» بجيشه؛ لأنه وجد أن أعداد التتار هائلة، وذهب ليُحَصِّن مدنه الكبرى في مملكته الواسعة (وخاصة العاصمة: أورجندة)، كان هذا اللقاء الدامي في عام (616هـ=1219م)[5].
انشغل «محمد بن خُوارِزم شاه» في تحضير الجيوش من أطراف دولته، ولكن يجب ألا ننسى أنه كان منفصلاً -بل معاديًا- للخلافة العباسية في العراق، ولغيرها من الممالك الإسلامية؛ فلم يكن على وفاق مع الأتراك ولا مع السلاجقة ولا مع الغوريين في الهند، وهكذا كانت مملكة خُوارِزم شاه منعزلة عن بقية العالم الإسلامي، ووقفت وحيدة في مواجهة الغزو التتري المهول. هذه المملكة وإن كانت قوية، وتمكَّنت من الثبات في أول اللقاءات؛ فإنها -ولا شكَّ- لن تصمد بمفردها أمام الضربات التترية المتوالية.
وفي رأيي أنه مع قوَّة التتار وبَأسهم وأعدادهم؛ فإن سبب المأساة الإسلامية بعد ذلك لن يكون في الأساس بسبب هذه القوَّة، وإنما سيكون بسبب الفُرقة والتشتُّت والتشرذم بين ممالك المسلمين، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال: 46]. فجعل الله عز وجل الفشل قرينًا للتنازع؛ والمسلمون كانوا في تنازع مستمرٍّ، وخلاف دائم، وعندما كانت تحدث بعض فترات الهدنة في الحروب مع التتار -كما سنرى- كان المسلمون يَغِيرُون على بعضهم، ويأسرون بعضهم، ويقتلون بعضهم! وقد عُلم يقينًا أنَّ مَنْ كانت هذه صفتهم، فلا يُكتب لهم النصر أبدًا.
عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «... وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لأُمَّتِيأَنْ لاَ يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ[6] وَأَنْ لاَ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ[7]، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ؛ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لاَ يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لأُمَّتِكَ أَنْ لاَ أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لاَ أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا -أَوْ قَالَ: مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا- حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا»[8].
فالمسلمون كانوا -في تلك الآونة- يُهلك بعضهم بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا؛فلا عجب إن غلب عليهم جيش التتار أوغيرهم
إضافة إلى داء الفُرقة فإن هناك خطأ واضحًا في إعداد «محمد بن خُوارِزم»، وهو أنه مع اهتمامه بتحصين العاصمة «أورجندة»؛ فإنه ترك كل المساحات الشرقية من دولته دون حماية كافية! ولكن لماذا يقع قائد محنَّك خبير بالحروب في مثل هذا الخطأ الساذج؟!
الواقع أن الخطأ لم يكن تكتيكيًّا في المقام الأول، ولكنه كان خطأ قلبيًّا أخلاقيًّا في الأساس؛ لقد اهتمَّ «محمد بن خُوارِزم» بتأمين نفسه وأسرته ومقرَّبيه، وتهاون كثيرًا في تأمين شعبه، وحافظ على كنوزه وكنوز آبائه، ولكنه أهمل الحفاظ على مقدَّرات وأملاك شعبه، وعادة ما يسقط أمثال هؤلاء القادة أمام الأزمات التي تعصف بأممهم، وعادة ما تسقط -أيضًا- الشعوب التي تقبل بهذه الأوضاع المقلوبة دون إصلاح؛ ولننظر ماذا تحمل الأيام لمحمد بن خُوارِزم وشعبه!

الصليبيون وقت ظهور التتار قصة التتار - الحلقة [3

 ظهرت قوَّة التتار في أوائل القرن السابع الهجري، بشكل همجي دموي، وقد تحدثنا في مقال الوضع الإسلامي وقت ظهور التتار عن الأمة الإسلامية في ذلك الوقت وكيف أنها قد أصابها الوهَن بعد مَنَعَة، والضعف بعد قوة، فأصبحت مُهيئة لأي احتلال، وفي هذا المقال نتحدث عن القوَّة الثانية في الوقت نفسه، وهي قوَّة الصليبيين.
كان المركز الرئيسي لهم في غرب أوربا؛ حيث لهم أكثر من معقل، وقد انشغلوا بحروب مستمرَّة مع المسلمين؛ فكان نصارى إنجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا يقومون بالحملات الصليبية المتتالية على بلاد الشام ومصر، وكان نصارى إسبانيا والبرتغال -وأيضًا فرنسا- في حروب مستمرَّة مع المسلمين في الأندلس.
إضافة إلى هذا التجمُّع الصليبي الضخم -في غرب أوربا- كانت هناك تجمُّعات صليبية أخرى في العالم، وكانت هذه التجمُّعات -أيضًا- على درجة عالية من الحقد على الأُمَّة الإسلامية، وكانت الحروب بينها وبين العالم الإسلامي على أشدِّها،
وكانت أشهر هذه التجمُّعات كما يلي:
•- #الإمبراطورية_البيزنطية -:وحروبها مع الأُمَّة الإسلامية شرسة وتاريخية؛ ولكنها كانت في ذلك الوقت في حالة من الضعف النسبي والتقلُّص في القوَّة والحجم؛ فلم يكن يأتي من جانبها خطر كبير، وإن كان الجميع يعلم قدر الإمبراطورية البيزنطية.
•- #مملكة_أرمينيا  وكانت تقع في شمال فارس وغرب الأناضول، وكانت -أيضًا- في حروب مستمرَّة مع المسلمين، خاصة السلاجقة.
•- #مملكة_الكُرْج-  وهي دولة جورجيا حاليًّا، ولم تتوقَّف الحروب كذلك بينها وبين أُمَّة الإسلام، وتحديدًا مع الدولة الخُوارِزمية.
 #الإمارات_الصليبية_في_الشام_وفلسطين_وتركيا:
وهذه الإمارات كانت تحتلُّ هذه المناطق الإسلامية منذ أواخر القرن الخامس الهجري؛ بدءًا من سنة (491هـ=1098م).
وعلى الرغم من انتصارات صلاح الدين الأيوبي على القوات الصليبية في حطين وبيت المقدس وغيرها؛ فإن هذه الإمارات ما زالت باقية، بل وما زالت من آن إلى آخر تعتدي على الأراضي الإسلامية المجاورة غير المحتلَّة، وكانت أشهر هذه الإمارات: أنطاكية وعكا وطَرَابُلُس وصيدا وبيروت.
وهكذا استمرَّت الحروب في معظم بقاع العالم الإسلامي تقريبًا، وزادت جدًّا ضغائن الصليبيين على أُمَّة الإسلام.
وشاء الله سبحانه وتعالى أن تكون نهاية القرن السادس الهجري سعيدة جدًّا على المسلمين، وتعيسة جدًّا على الصليبيين؛ فقد أَذِنَ الله عز وجل في نهاية القرن السادس الهجري بانتصارين جليلين لأُمَّة الإسلام على الصليبيين؛ فقد انتصر البطل العظيم «صلاح الدين الأيوبي» على الصليبيين في موقعة «حطين» في الشام، وذلك في عام (583هـ=1187م)، وبعدها بثماني سنوات فقط انتصر البطل الإسلامي الجليل «المنصور الموحِّدي» زعيم دولة الموحدين على نصارى الأندلس في موقعة «الأرك» الخالدة في سنة (591هـ=1195م).
وعلى الرغم من هذين الانتصارين العظيمين؛ فإن المسلمين في أوائل القرن السابع الهجري كانوا في ضعف شديد؛ وذلك بعد أن تفكَّك شمل الأيوبيين بوفاة صلاح الدين الأيوبي، وكذلك انفرط عِقْدُ المُوحِّدين بعد وفاة المنصور الموحِّدي، غير أن الصليبيين كانوا كذلك في ضعف شديد لم يُمَكِّنهم من السيطرة على البلاد المسلمة، وإن كانت رغبتهم في القضاء عليها قد زادت.
كان هذا هو وضع العالم في أوائل القرن السابع الهجري.
•- #قوَّة_الأُمَّة_الإسلامية -  وهي قوَّة ذات تاريخ عظيم، وأمجاد معروفة؛ لكنها تمرُّ بفترة من فترات ضعفها، وهذا الضعف وإن كان شديدًا؛ فإنه لم يُسقط هيبة الأُمَّة تمامًا؛ لأن أعداءها كانوا يعلمون أن أسباب النصر وعوامل القوَّة مزروعة في داخل الأُمَّة، وإنما تحتاج فقط إلى مَنْ يستخرجها وينميها.
•- #قوَّة_الصليبيين -وهم وإن كانوا -أيضًا- في حالة ضعف، وفي حالة تخلُّف علمي وحضاري شديد بالمقارنة بالأُمَّة الإسلامية؛ فإنهم قوَّة لا يستهان بها؛ وذلك لكثرة أعدادهم، وشدَّة حقدهم، وإصرارهم على استكمال المعركة مع المسلمين إلى النهاية؛ وصدق الله العظيم إذ يصفهم بقوله: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].
وكانت قوَّة الإسلام وقوَّة الصليبيين -في ذلك الوقت- تمثلان معًا قوَّة العالم القديم.
وبينما كان هذا هو حال الأرض في ذلك الوقت، ظهرت قوَّة جديدة ناشئة قلبت الموازين، وغيَّرت من خريطة العالم، وفرضت نفسها كقوَّة ثالثة في الأرض؛ أو تستطيع أن تقول: إنها كانت القوَّة الأولى في الأرض في النصف الأول من القرن السابع الهجري.
هذه القوَّة هي قوَّة دولة التتار أو المغول!  وقد أدَّى ظهور هذه القوَّة إلى تغييرات هائلة في الدنيا بصفة عامَّة، وفي أرض الإسلام بصفة خاصة.
فهي قوَّة همجية بشعة.. قوَّة بلا تاريخ، ظهرت فجأة، وليس عندها مخزون ثقافي أو حضاري أو ديني يسمح لها بالتفوُّق على غيرها؛ فكان لا بُدَّ لها من الاعتماد على القوَّة الهمجية والحرب البربرية لفرض سطوتها على مَنْ حولها.
ومن سُنَّة الله عز وجل أن يحدث الصراع بين القوى المختلفة، والتدافع بين الفرق المتعدِّدة.. ومن سُنَّة الله عز وجل كذلك أن الأقوياء المفتقرين إلى الدين لا يقبلون بوجود الضعفاء إلى جوارهم.. ومن سُنَّة الله عز وجل كذلك أنَّ الباطل -مهما تعدَّدت صوره- لا بُدَّ أن يجتمع لحرب الحقِّ.. ومن سُنَّة الله عز وجل كذلك أن الحرب بين الحقِّ والباطل لا بُدَّ أن تستمرَّ إلى يوم القيامة.
إذا وضعنا كل هذه السُنن في أذهاننا؛ فإننا يجب أن نتوقَّع تعاونًا بين التتار والصليبيين -على اختلاف توجُّهَاتهم وسياستهم ونظرياتهم- لحرب المسلمين. وهذا -سبحان الله- ما حدث بالضبط!
أرسل الصليبيون وفدًا رفيع المستوى من أوربا إلى منغوليا (مسافة تزيد على اثني عشر ألف كيلو متر ذِهابًا فقط!) يُحَفِّزُونهم على غزو بلاد المسلمين، وعلى إسقاط الخلافة العباسية، وعلى اقتحام «بغداد» درَّة العالم الإسلامي في ذلك الوقت، وعظَّمُوا لهم جدًّا من شأن الخلافة الإسلامية، وذكروا لهم أنهم -أي الصليبيين- سيكونون عونًا لهم في بلاد المسلمين، وعينًا لهم هناك[1]، وبذلك تم إغراء التتار إغراءً كاملاً.
وقد حدث ما توقَّعه الصليبيون.. سال لُعاب التتار لأملاك الخلافة العباسية، وقرَّرُوا فعلاً غزو هذه البلاد الواسعة الغنية بثرواتها المليئة بالخيرات؛ هذا مع عدم توافق التتار مع الصليبيين في أمور كثيرة؛ بل ستدور بينهم بعد ذلك حروب في أماكن متفرِّقَة من العالم، ولكنهم إذا واجهوا أُمَّة الإسلام، فإنهم يُوَحِّدون صفوفهم لحرب الإسلام والمسلمين، وهذا الكلام ليس غريبًا، بل هو من الطُرق الثابتة لأهل الباطل في حربهم مع المسلمين.
تَعَاوَنَ قبل ذلك اليهود مع المشركين لحرب الرسول صلى الله عليه وسلم مع الاختلاف الكبير في عقائد اليهود عن عقائد المشركين، بل تعاون الفرس مع الروم على حرب المسلمين مع شدَّة الكراهية بين الدولتين الكبيرتين فارس والروم، ومع الثارات القديمة، والخلافات المستمرَّة والحروب الطويلة، وتعاون الإنجليز مع اليهود لإسقاط الخلافة العثمانية، ولاحتلال فلسطين، وزَرْع الكيان الصهيوني داخل هذه الأرض المباركة؛ مع شدَّة العداء بين اليهود والنصارى.
تتمُّ التحالفات بين المسلمين وبين بعض الأعداء لأَجَلٍ معيَّن ولهدف خاص؛ ولكن ذلك يكون بلا تفريط في الدين، ولا تساهل في الحقوق، ويكون بحذر كافٍ، وإلى أَجَلٍ معلوم، لكن لا يصل الأمر أبدًا إلى الولاء والصداقة ونسيان الحقائق؛ التي ذكرها الله عز وجل واضحة في كتابه الكريم؛ حيث قال: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120