بسم الله الرحمن الرحيم (يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } العلم درجات: أولها الصمت، والثانية الاستماع، والثالثة الحفظ، والرابعة العمل، والخامسة النشر ***مروان طاهات*** يرحب بكم ويكيبيديا الموسوعة المروانية MANT

الثلاثاء، 4 نوفمبر 2014

بكاء القيروان في الشعر المغربي القديم

يعترض هذا البحث إلى رثاء المدن في الشعر العربي، في المشرق والأندلس، قبل نكبة القيروان، وحاول أن يقدّم صورة عن بكاء القيروان في الشعر المغربي، من خلال شعر أربعة شعراء قيروانيين، هم:
1- ابن رشيق المسيلي القيرواني0-2 وابن شرف القيروان 3- وأبو الحسن الحصري القيرواني 4- وعبد الكريم بن فضال.
 
لمحة عن بكاء المدن في الشعر العربي قبل نكبة القيروان
 
أ- في المشرق: بكاء المدن في الشعر، هو باب من الرثاء، عرفه شعراء المشرق، إلا أنهم لم يبلغوا فيه شأن المغاربة والأندلسيين، الذين كانوا فيه أكثر روعة، ولعل ذلك يعود لكون خراب المدائن، وزوال الدول تباعاً، إنما وقع بكثرة في المغرب العربي، ولاسيما في الأندلس فقد أحزنهم أن يروا مدنهم تسقط مدينة إثر مدينة في أيدي الغزاة المكتسحين، فبكوها بقصائد ومقطعات، خلدها لنا التاريخ في مصادره المختلفة: وأول ما وصلنا من الشعر المشرقي في بكاء المدن، هذه المقطوعة للشاعر عمرو بن عبد الملك الوراق الذي بكى فيها بغداد أثناء الفتنة بين الأمين والمأمون سنة سبع وتسعين ومائة للهجرة "197هـ،812م" حين حاصرها طاهر بن الحسين قائد جيش المأمون، ودام الحصار سنة واشتد البلاء وعظم الخطب (5) وكثر الحريق والهدم ببغداد، ودرست محاسنها، فاستحالت إلى أطلال، وتنقّل الناس من مكان إلى مكان هرباً من الجحيم(6) ونظر الشعراء إلى مدينتهم الجميلة –بغداد، فرأوا ما نزل بها في صنوف التدمير والتخريب، فندبوها بشعرهم، وممّن بكاها عمرو بن عبد الملك الوراق، إذ ردّ ما أصابها إلى العين فقال:
 
من ذا أصابكِ يا بَغْدادُ بالعَيْنِ       ألم تكوني زماناً قُرَّةَ العَيْنِ
ألم يكن فيكِ قومٌ كان قربُهمُ      وكان مسكَنُهم زَيْناً مِن الزَّيْنِ؟
 
صاحَ الغُرابُ بهم بالبَيْن فافترقوا    ماذا لَقِيت بهم من لَوْعة البَيْنِ؟
أَسْتَوْدِعُ اللهَ قوماً ما ذكرتُهُمُ       إلا تحدَّرَ ماءُ الدَّمْعِ من عيني؟
كانوا فَفرَّقهُمْ دهرٌ صدَّعَهُمْ      والدهرُ يَصْدَعُ ما بين الفَرِيقَيْنِ؟(7)
 
وفي وقعة شارع دار الرقيق العظيمة التي قُتل فيها خلق كثير، يقول أحد الشعراء، يبكي بغداد وأهلها:
 
بكَتْ عَيْني على بغدادَ لمَّا   فَقَدْتُ غَضارَةَ العيشِ الأَنِيقِ
 
أصابَتْنا من الحسادِ عينُ   فأَفْنَتْ أهلَها بالمَنْجَنِيقِ
 
فقَوْمٌ أُحْرِقوا بالنارِ قَصْراً   ونائحةٌ تنوحُ على غَرِيقِ
 
وصائِحةٌ تُنادِي يا صِحابي  وقائلةٌ تنادي: يا شَقِيقي
 
إلى أن يقول:
 
فلا ولدٌ يُقِيمُ على أبيه   وقد هرَبَ الصديقُ عنِ الصَّديق(8)
 
وفي بكاء بغداد أيضاً، قال الشاعر الخريمي إسحاق بن حسّان الفارسي قصيدة طويلة "وصف فيها ما حلّ ببغداد في نبرة آسية، ولوعة صادقة، صوّر خلالها الفتنة تصويراً دقيقاً مسهباً، حتى لتبدو أمام العين، حين قراءتها، صور التخريب والدّمار والقتل والذّعر الذي يتغشّى الناس في الطرّقات"(9)- ومطلعها:
 
يا بؤسَ بغدادَ دار مملكةٍ   دارَتْ على أهلها دوائرُها(10)
 
وفي سنة خمس وخمسين ومائتين للهجرة (255هـ) اقتحم الزّنج مدينة البصرة، وأشعلوا نار الحرب فيها، وهزموا جيوش الخليفة، واستباحوا البصرة وغيرها(11)، واستمرّت مقاومتهم للدّولة العباسية بقيادة علي بن محمد مدة أربعة عشر عاماً، هدّدوا خلالها كيان الدولة العباسية، ودّمروا البصرة عن آخرها، وقد بكاها ابن الرومي (221-283هـ)(12) بقصيدة وصف فيها غلبة الزّنج عليها، واعتداءهم على الأموال والحرمات والأعراض، منها قوله:
 
أيُّ نومٍ من بعد ما حَلُّ بالبَصْرةِ   ما حَلَّ مِن هَناتٍ عِظامِ
 
أيُّ نوم من بعدِ ما انْتَهَكَ        الزَّنْجُ جِهاراً مَحارِمَ الإسلامِ
 
كَمْ أخٍ قَدْ رأى أخاه صَرِيعاً   تَرِبَ الخَدِّ بَيْنَ صَرْعَى كِرام(13)
 
لكنَّ هذا اللون من الشعر لم يظهر في الأدب المشرقي غرضاً قائماً بذاته، كما ظهر في الأدب الأندلسي(14).
 
ب- في الأندلس: يقول الدكتور الطاهر أحمد مكي: "فبكاء الممالك المنهارة والمدن الذّاهبة، فن أندلسي أصيل فيما أرى، وُجِدَتْ دوافعه في المشرق والمغرب على السواء، وخُصّ الأندلس ببعضها، وتفرد بأنه جرى مع هذه الدوافع إلى غايتها، فكان له معها قصيد رائع أحياناً ودون الجيد أحياناً أخرى تبعاً لثقافة الشاعر وطاقاته النّفسية، وحظّه من تجارب عصره عمقاً واتساعاً…"(15).
 
وكانت الفتنة(16) في قرطبة سبباً في بداية انتشار شعر بكاء المدن في الأندلس، إذ نظر الشعراء إلى عاصمتهم حينئذ -قرطبة  –فوجدوا معالمها قد دمّرت، ودُورُها دق خُرّبت ونُهبتْ فندبوها بمراثيهم، وممن بكاها ابن حزم (384-456هـ) الذي كان قد غادرها والتجأ إلى المرية خوفاً على نفسه، لكنه ظل يتمنى أن تكون له قبراً فقال:
 
فيا دارُ لم يُفْقِرْكِ منا اخْتيارُنا  ولو أَنَّنا نَسْطيعُ كنتِ لنا قَبْرا
 
ولكنَّ أَقْداراً منَ اللهِ أُنْفِذَتْ    تُدَمِّرنا طَوْعاً لما حَلَّ أو قَهْرا(17)
 
وبكاها ابن شهيد أيضاً فقال:
 
فَلِمِثْلِ قُرْطبةٍ يَقِلُّ بُكاءُ مَنْ   يبكي بعينٍ دَمْعُها مُتفَجِّرُ
دارٌ أَقالَ اللهُ عَثرَةَ أَهْلِها     فَتَبْربَروا وتَغَرَّبوا وتَمَصَّروا
في كلِّ ناحيةٍ فريقٌ منهمُ    مُتَفَطِّرٌ لِفِراقِها مُتَحَيِّر(18)
 
وبكاها آخر بقصيدة منها:
 
إِبْكِ على قُرْطُبَةَ الزَّيْنِ            فَقدْ دَهَتْها نَظَرَةُ العَيْنِ
كانَتْ على الغايةِ مِنْ حُسْنِها    وعَيْشِها المُسْتَعْذَبِ اللَّيْنِ
 
فانعَكَسَ الأمرُ فما إِن تَرَى     بها سُروراً بَيْنَ اثْنَيْنِ
فَاغْدُ ودَعْها وسِرْ سالماً        إنْ كُنْتَ أزمَعْتَ عَلَى البَيْنِ(19)
 
 
وبكاها آخرون أيضاً(20)، وتوسّعوا في بكاء المدن والممالك الزائلة –فيما بعد- بعد أن رأوا مدنهم تسقط مدينة إثر مدينة في أيدي الفرنجة، فبكى ابن العسّال (عبدا لله أبو محمد) مدينة طليطلة بعد أن استولى عليها الفرنجة سنة 478هـ، وابن اللّبانة دولة بني عباد، وابن عبدون دولةَ بني الأفطس، عندما أزالها ابن تاشفين، وبكى ابن خفاجة مدينة بلنسية التي سقطت في أيدي الفرنجة سنة 488هـ، كما بكى أبو البقاء الرندي الأندلس بكاملها بعد أن استردّها الفرنجة، ولا يتّسع المجال هنا لذكر بعض النماذج من شعر هؤلاء، وبعد هذه النّبذة عن بكاء المدن في الشعر العربي في المشرق والأندلس، نصل الآن إلى الحديث عن بكاء القيروان في الشعر المغربي..
 
بكاء القيروان في الشعر المغربي
 
كانت القيرواني قبل نكبتها سنة تسع وأربعين وأربعمئة للهجرة (449هـ) في أوج عظمتها وقمّة حضارتها، تزخر بالعديد من العلماء والأدباء الكبار أمثال محمد بن جعفر النّحوي المعروف بالقزّاز (412هـ) وإبراهيم الحصري (413هـ) صاحب زهر الآداب، وأبي الحسن الحصري (480هـ)، وغيرهم.
 
كما كان بلاط المعزّ بن باديس يرفل بالعلماء والأدباء، وكان من بينهم ابن رشيق (390-456هـ) وابن شرف (390-460هـ) اللّذان حازا إعجاب المعزّ بن باديس، وحظيا بعنايته، واهتمامه "وكانا مقدّمين عنده على سائر من في حضرته، يثير بينهما عوامل المنافسة والتحدي، فتنافسا وتنافرا ثم تهاجيا(21) ولم يتصالحا إلا في ديار الغربة بجزيرة صقلية، حيث فرّ الشاعران بعد نكبة القيروان، وعاشا معا فترة من الزمن، لكن ابن شرف غادرها إلى الأندلس التي توفي فيها سنة ستين وأربعمئة للهجرة (460هـ) (22) بمدينة إشبيلية، وبقي ابن رشيق في صقلية حتى وافته منيته على أرضها سنة ست وخمسين وأربعمئة (456هـ) (23) في رواية، وفي رواية أخرى توفي سنة 463هـ.(24)
 
وكلا الشاعرين بكى مدينته القيروان حينما اقتحمها عرب صعيد مصر، ومن بين ما وصلنا في هذا الفن من شعر ابن رشيق قصيدته النونية التي يقول فيها:
 
كَمْ كانَ فيها مِن كِرامٍ سادةٍ   بِيضِ الوجوهِ شَوامِخِ الإِيمانِ
مُتعاوِنينَ على الديانَةِ، والتُّقَى   للهِ في الإِسْرارِ والإِعلانِ
وأئمةٍ جَمَعُوا العلومَ وهَذَّبوا    سُنَنَ الحديثِ ومُشْكِلَ القُرآنِ
 
عُلماءٌ إنْ ساءَلْتَهُم كَشَفوا العَمَى  بفَقاهَةٍ وفَصاحَةٍ وبَيانِ
وإذا دجى الليل البهيمُ رأيْتَهُمْ    مُتَبتِّلِينَ تَبَتُّلَ الرُّهْبانِ(25)
 
 
ويمضي الشاعر واصفاً العلماء والزهّاد والفقهاء من أهل القيروان بالتّقى والورع، وخوف جبابرة الملوك منهم، لأنهم خافوا الله فخافهم كلّ الورَى.. إلى أن يقول:
 
كانَتْ تُعَدُّ القَيْروانُ بِهِمْ إذا          عدّ المنابر زَهْرَةَ البُلُدانِ
وزَهَتْ على مَصْرٍ وحُقَّ لها، كما   تَزْهو بِهِمْ، وعَدَتْ على بَغْدانِ
حَسُنَتْ فلمَّا أنْ تكامَلَ حُسْنُها     وسَمَا إليها كُلُّ طَرْفٍ رانِ
وتَجمَّعَتْ فيها الفضائِلُ كُلُّها    وغَدَتْ مَحَلَّ الأَمَنِ والإِيمانِ
 
نَظرَتْ لها الأَيامُ نظرةَ كاشِحٍ     تَرْنُو بنظرةِ كاشِحٍ مِعْيانِ
 
حتَّى إذا الأقدارُ حُمَّ وُقوعُها     ودَنا القَضاءُ لِمُدَّةٍ وأَوانِ
مَصائِبٍ من فادِعٍ أو شائِبٍ    مِنَّنْ تجمَّعَ من بني دَهْمانِ(27)
 
ثم يشير ابن رشيق بعد ذلك، إلى ما أصاب القيروان من دمار وكيف نقض بنو هلال العهد وغدروا بالقيروانيين، فقتلوا الرجال، وسبوا النساء، ونهبوا الأموال، وشرّدوا الأطفال، وقد صوّر الشاعر خروج النّاس حفاة عائذين بربهم، خائفين، هاربين، يحملون أطفالهم، فقال:
 
فَتَكَوا بأُمَّةِ أَحْمَدٍ أَتُراهُمُ            أَمِنوا عقابَ اللهِ في رَمَضان؟
 
نقضوا العهودَ المُبْرَماتِ وأَخْفَروا    ذِمَمَ الإلهِ، ولم يَفُوا بَضَمانِ
 
فاستحسنوا غَدْرَ الجَوارِ وأثَرُوا      سَبْيَ الحريمِ وكَشْفَةَ النِّسوانِ
 
ساموهُمُ سُوءَ العَذابِ وأَظْهَروا      مُتعسِّفِينَ كَوامِنَ الأَضْعانِ
 
يَسْتَصْرِخونَ فلا يُغاثُ صَرِيخُهُمْ    حتَّى إذا سَئِموا مِنَ الإِرنْانِ
 
فادُوا نفوسَهُمُ فلمَّا أنفْدوا         ما جَمَّعوا مِنْ صامِتٍ وصُوانِ
 
واسْتَخْلَصوا مِن جَوْهَرٍ ومَلابِسٍ     وطَرائِفٍ وذَخائِرٍ وأَواني
خَرَجوا حُفاةً عائذينَ بربِّهِمْ       مِنْ خَوْفِهمْ ومصَائِبِ الألْوانِ
هَرَبُوا بكُلِّ وَلِيدَةٍ وفَطِيمَةٍ         وبِكُلُّ أَرْمَلَةٍ وكُلِّ حَصَانِ
وبِكُلِّ بِكْرٍ كالمَهاةِ عَزِيزةٍ        تَسْبِي العُقولَ بطَرْفِها الفَتَانِ
 
خَوْدٍ مُبَتَّلَةِ الوِشاحِ كأَنَّها       قَمَرٌ يلوحُ على قَضِيبِ الْبَانِ(27)
 
ثم يذكر مسجد عقبة بن نافع بالقيروان، وما آل إليه بعد النكبة، وكيف أصبح قفراً بعد أن توقفت الصلوات به، فكانت بذلك أعظم مصيبة أصابت الإسلام والمسلمين، بعثت في نفوسهم الحزن والأسى إذ يقول:
 
والمَسْجِدُ المعمورُ جامِعُ عَقْبةٍ       خَرِبُ المَعاطِنِ مُظلمُ الأرْكانِ
قَفْرٌ فما تَغْشاهُ بَعْدُ جَماعَةٌ         لِصَلاةِ خَمْسٍ لا ولا لأَذانِ
بَيْتٌ بَوَحيِ اللهِ كانَ بناؤه          نِعْمَ البنا والمبتنى والباني
أَعْظِمْ بِتلكَ مُصِيبةً ما تَنْجَلي      حَسَراتُها أو يَنْقَضي المَلَوانِ(28)
 
ويمضي ابن رشيق في قصيدته ليشير إلى أنّ الأمة العربية والإسلامية في المشرق والمغرب، حينئذ، قد أحزنها ما أصاب القيروان، فقال:
 
حزنَتْ لها كُوَرُ العراقِ بأَسْرِها   وقُرَى الشَّآمِ ومِصْرَ والخُرَاسانِ
وتَزعزعَتْ لمُصابِها وتَنَكَّدَتْ        أَسفاً بِلادُ الهِنْدِ والسِّنْدانِ
وعَفا من الأقطارِ بَعْد خَلائِها     ما بَيْنَ أَنْدَلُسٍ إلى حُلْوانِ(29)
 
ولم يقف الحزن على القيروان عند الإنسان، وإنما تجاوزه إلى الطبيعة، فالنّجوم الزّاهرة، والشّمس والقمر، واللّيل والنهار، والجبال، والأرض، قد اهتزّت جميعها لمصاب القيروان، يقول:
 
وأرى النّجوم طلَعْنَ غيرَ زَواهِرٍ     في أُفْقِهِنَّ وأَظْلَمَ القَمَران
وأَرى الجِبالَ الشُّمَّ أَمسَتْ خَشَّعاً   لَمُصابِها وتَزَعْزَع الثَّقَلانِ(30)
 
ويختم قصيدته بالتساؤل عما إذا كان في الإمكان أن تعود القيروان إلى سابق مجدها وعزّها ولكن كيف السّبيل إلى ذلك، بعدما لعب الزّمان بأهلها، وسلبتها الأيام حسنها وجمالها؟ فيقول:
 
أترى اللّيالي بعدما صنَعَتْ بنا  تقضي لنا بتَواصُلٍ وتَدانِ؟
 
وتُعيدُ أرضَ القيروانِ كعَهدْهِا  فيما مضى مِن سالِفِ الأزمانِ
 
أمسَتْ وقد لَعِبَ الزّمانُ بأهلِها   وتقَطَّعتْ بِهِمُ عُرَى الأَقْرانِ
 
فتفَرَّقوا أَيْدِي سَباً وتَشتَّتوا   بَعْد اجتماعِهِمُ على الأَوْطانِ(31)
 
كانت هذه مقتطفات من نونية ابن رشيق في بكاء القيروان، وهي قصيدة طويلة تبلغ خمسة وخمسين بيتاً، وقد صوّر لنا فيها الشاعر النكبة تصويراً دقيقاً، كما وصف حال المدينة في أيّام عزّها ومجدها وما آلت إليه بعد اقتحامها، جاء كل ذلك بأسلوب عربي مبين، على الرغم مما تسرّب إليه من جمل مضطربة ركيكة أحياناً، أمّا عاطفته فصادقة لأنّه من أهل المدينة الذين شُردوا وأُبعدوا عن ديارهم فجاءت عاطفته حزينة لأن قلبه يقطر ألماً وأسى على ما حلّ بمدينته الجميلة من دمار وخراب…
 
أمّا ابن شرف القيرواني (390-460هـ) صديق ابن رشيق السّالف الذّكر، فقد بكى مدينته هو الآخر بشعر رقيق، يدّل على امتلاكه لموهبة شعرية، وقدرة فنية على قول الشعر وخوض غماره في مهارة وبراعة، ومما وصلنا من شعره في بكاء القيروان، قصيدته اللاّمية التي يصف فيها جالية القيروان بمدينة سوسة، وما أصابها من مهانة واحتقار، إثر فرارهم بعد نكبة مدينتهم، يقول:
 
آهِ لِلْقَيروانِ! أَنَّةَ شَجْرٍ        عن فؤادٍ بجاحِمِ الحُزْنِ يَصْلَى
 
حين عادتْ به الديارُ قُبُوراً   بل أقول: الدّيارُ منهنَّ أَخْلَى
 
ثُمَّ لا شمعةٌ سِوَى أنجمٍ تخـ   طوا على أُفْقِها نَواعِسَ كَسْلَى
 
بَعْد زُهْرِ الشِّماعِ تُوقَدُ وَقْداً   ومِتانِ الذُّبالِ تُقْتَلُ فَتْلا
 
والوُجوهُ الحِسانُ أَشْرقُ مِنْهُنَّ  وتَفْضُلْنَهُنَّ مَعْنىً وشَكْلا
 
إلى أن يقول:
 
بَعْد يومٍ كأنما حُشِرَ الخَلْـ         قُ حُفاةً به، عَوارِيَ، رَجْلَى
ولهمْ زحَمْةٌ هنالك تحكي          زحمةَ الحَشْرِ والصَّحائفُ تُتْلَى
مِنْ أَيامَى وَراءهُنَّ يتامى            مُلِئوا حَسْرةً وشَجْواً وثُكْلا
وحَصانٍ كَأَنَّها الشمسُ حُسْناً      كَفَّنَتْها الأَطْمارُ نَجْلاءَ كَحْلا
 
والقصيدة في ثلاثة وثلاثين بيتاً، وهي من عيون الشّعر العربي في هذا الفنّ، من حيث دقّة تصوير ما أصاب القيروانيين من ذلّ وهوان أثناء تعرّض مدينتهم للاقتحام من قبل الغزاة، ولابن شرف قصائد ومقطوعات أخرى في ندب القيروان والحنين إليها، ومنها قول:
 
يا قيروانُ وَدِدْتُ أَنِّي طائِرُ       فأَراكِ رؤيةَ باحثٍ مُتأَصِّلِ
آهاً وأَيةُ آهَةٍ تَشْفِي جَوَى       قَلْبٍ بِنيرانِ الصَّبابَةِ مُصْلَي
 
أَبدَتْ مفاتيحُ الخطوبِ عَجائباً   كانتْ كوامِنَ تحتَ غَيْب مُقفَلِ(33)
 
والآن ننتقل إلى شاعر قيرواني آخر، وهو: أبو الحسن الحصري القيرواني، صاحب القصيدة الشّهيرة التي مطلعها:
 
يا لَيْل الصَّبّ متى غَدُهُ     أَقيامُ السّاعةِ مَوْعِدُهُ(34)
 
ولد في حدود سنة عشرين وأربعمئة (420) للهجرة(35) بالقيروان، وفيها قضى شبابه، أي: نحو ثلاثين سنة من عمره، وبعد نكبة القيروان اضطرّ إلى الهجرة من وطنه كما فعل الشّاعران السّابقان ابن رشيق وابن شرف من قبل، والتجأ إلى سبتة واستقرّ بها يدرّس علم القراءات ثم اجتاز إلى الأندلس، واتّصل ببني عَبّاد في إشبيلية ومدحهم، ثم انتقل بين عواصم ملوك الطّوائف، وأخيراً حلّ بمدينة طنجة، وبها توفي سنة ثمان وثمانين وأربعمئة للهجرة (488هـ).(36)
 
وقد آلمته نكبة القيروان كبقيّة شعراء عصره، فقال يندبها بقصيدة طويلة نقتطف منها هذه الأبيات:
 
مَوتُ الكرامِ حياةٌ في مَواطِنِهُمْ       فإن هُمُ اغتربوا ماتُوا ما ماتوا
يا أَهْلُ وُدِّيَ لا واللهِ ما انْتَكَثَتْ      عندي عُهودٌ ولا ضاقَتْ مَوَدَّاتُ
 
لئنْ بَعُدْتُمْ وحالَ البحرُ دونَكُمُ      لَبَيْنَ أرواحِنا في النثُّورِ زَوْراتُ
ما نِمْتُ إلاَّ لكِيْ أَلقَى خَيالَكُمُ    وأَيْنَ مِن نازِحِ الأَوْطانِ نَوْماتُ(37)
 
إلى أن يقول:
 
أَصْبَحتُ في غُرْبتِي لولا مُكاتَمَتي     بَكَتْنِيَ الأرضُ فيها والسَّماواتُ
كأَنَّني لم أَذُقْ بالقَيْروانِ جَنىً         ولم أَقُلْ ها لأَحْبابي ولا هَاتُوا
ألا سَقَى اللهُ أرضَ القَيْروانِ حَياً       كأنَّه عَبَراتِي المُسْهِلاَّتُ(38)
 
ونلاحظ أنّ الحصري أكثر براعة في الشّعر من صاحبيه: ابن رشيق وابن شرف، ولعلّ لآفة العمى التي أصيب بها الحصري دوراً في ذلك.
 
وبكى القيروان أيضاً، بعد نكبتها، الشّاعر عبد الكريم بن فضال القيرواني، فقال:
 
كيفَ قَيْروانُ حالُكِ لمَّا          نَثَر البَيْنُ سِلْكَكِ المَنْظوما
كنتِ أمَّ البلادِ شرقاً وغرباً   فمحا الدهرُ وَشْيَكِ المَرْقوما(39)
 
الخصائص العامة في شعر بكاء القيروان
 
في ختام بحثنا هذا، يجدر بنا أن نشير إلى بعض الخصائص العامة في شعر بكاء القيروان، وهي:
 
1- الشعراء الذين رثوا القيروان كلهم من أهلها، وقد ألجأهم الهلاليون إلى هجرها، والفرار منها، ولذا بالغوا في تصوير المأساة، أي ما نزل من صنوف التدمير والتخريب والعسف والهوان…
 
2- الشعر فنّ من فنون الكلام، يعتمد على الصّور والأخيلة التي تقتفي أثر الحقيقة، وتلتصق بها، وبالنّظر إلى أنّ الحقيقة قد وقعت فعلاً، فإنّ علم المؤرخ وبحثه يجدان الحقيقة، وخياله وفنّه يوضّحان مدلولها(40) ولذلك يمكن أن يستفيد التاريخ من الشعر، ولكن لا يجب الاعتماد عليه كليّة ليكون وثيقة أو سنداً تاريخياً دون تمحيص وتدقيق….
 
3- بعض الشعراء لم يذكروا الهلاليين بسوء، وإنما أرجعوا المصير المحتوم، أي نكبة القيروان إلى القضاء والقدر، ودعوا الله أن يعيدها إلى سالف عهدها…
 
4- ما وصلنا من شعر هذا الفن، هو قصائد ومقطّعات، ولم يختص أيّ شاعر بهذا اللون من الشّعر…
 
5- بالنسبة لطول النّفَس وقصره: لقد طالت قصائد بعض الشعراء كنونية ابن رشيق ولامية ابن شرف، وتائية الحصري، أمّا بقية الأشعار التي وصلت إلينا فمقطّعات قصيرة.
 
6- بالنسبة للوحدة الموضوعيّة: فقد جاءت قصائدهم ومقطّعاتهم كلاًّ متماسكاً، يصعب أن نجد فيها ثغرات، وقد أعطى هؤلاء الشعراء لهذا الفن أهمية فكانوا من أوائل الذين أفردوا له قصائد ومقطّعات..
 
7- تميّز شعر رثاء القيروان بصدق العاطفة، وحرارة الشعور، لأنّه يصدر عن عاطفة أسى عميق ويبدو لنا الحزن واضحاً في ثنايا القصائد والمقطوعات…
 
8- أمّا الأسلوب، ففي جملته سهل يمتاز بالموسيقى الحزينة، والرّنّة الواجمة، والأنّة الوجيعة، وهو يختلف من شاعر إلى آخر، فأسلوب ابن رشيق ركيك، وقد يبلغ حدّ الإسفاف أحياناً ومردّ ذلك أنّ ابن رشيق كان ناقداً أكثر منه شاعراً، أمّا أسلوب ابن شرف فكان سلساً وألفاظه واضحة مألوفة، وقد برع في تصوير المدينة والهاربين منها، أمّا الحصري فكان أكثر براعة في الأسلوب من صاحبيه: ابن رشيق وابن شرف، فأسلوبه متين السبك، جميل اللفظ مشرق الديباجة، ولعلّ لآفة العمى التي أصيب بها الحصري دوراً في ذلك، أمّا ابن فضال، فلا نستطيع الحكم على أسلوبه وشاعريته لقلّة ما وصلنا من شعره في هذا الباب.
  د.سعد بوفلاقة
______________________
 
هوامش ومراجع
 
1- هو حسن بن رشيق، مملوك من موالي الأزد، ولد بالمسيلة سنة تسعين وثلاث مئة (390هـ) للهجرة ونشأ بها، وتأدب بها يسيراً وعلمه أبوه صنعته وهي الصياغة، وقال الشعر قبل أن يبلغ الحلم وتاقت نفسه إلى التزيّد من ذلك، وملاقاة أهل الأدب، فرحل إلى القيروان سنة ست وأربعمئة (406)، فأخذ عن جلّة علمائها، ثم اتّصل بالبلاط الصنهاجي سنة سبع عشرة وأربعمئة (417هـ) ومدح المعز بن باديس، وأصبح من شعرائه المقربين.. (ابن رشيق: أنموذج الزمان في شعراء القيروان، ص: 439-440، ط. تونس (1986)، وانظر عنه: ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج2 ص: 85 (ط.إحسان عباس)، والعماد الحنبلي: شذرات الذهب، ج3، ص: 298 و السيوطي: بغية الوعاة، ج1، ص: 504 (طبعة القاهرة) وياقوت الحموي: معجم الأدباء ج8، ص:111 (طبعة القاهرة).
 
2-هو محمد بن أبي سعيد، المعروف بابن شرف القيرواني، الأديب الشاعر، ولد في مدينة القيروان سنة تسعين وثلاثمئة للهجرة، والقيروان في أوج ازدهارها رافلة بالعلوم، حافلة بالفنون، زاخرة بالعديد من العلماء والأدباء الكبار، فتلقى العلم والأدب عنهم، حتى نبغ وأجاد وأصبح من شعراء الدولة الصنهاجة المقربين، ونديماً لأمريكا المعز بن باديس الذي حاز إعجابه، وحظي بعنايته هو وصديقه ابن رشيق، إذ كان المعز بينهما عوامل المنافسة والتحدي، وبقي ابن شرف في هذا الجو الأدبي الخصب حتى اقتحم الهلاليون القيروان سنة 449هـ، فرحل إلى صقلية ثم غادرها إلى الأندلس التي توفي بها عام ستين وأربعمئة للهجرة (ديوان ابن شرف ص: 19 وما بعدها) وانظر عنه: ابن بشكوال: الصلة، ج2، ص: 571 مكتبة الثقافة 1975م. وياقوت الحموي: معجم الأدباء، ج19، ص: 37،(ط. القاهرة 1963م).
 
3-أبو الحسن الحصري القيرواني (420-488هـ) ولد بالقيروان فيها طفولته وشبابه، أي نحو ثلاثين سنة، وبعد نكبة القيروان اضطر إلى الهجرة من وطنه كما هاجر غيره، واستقر في سبتة ثم رحل إلى الأندلس، وأخيراً حلّ بطنجة سنة 483هـ، قادماً إليها من عواصم الأندلس، واستقر فيها حتى أدركته المنية سنة 488هـ (انظر حياته وشعره بالتفصيل في كتاب، محمد المرزوقي والجيلاني بن الحاج يحي: أبو الحسن الحصري القيرواني).
 
4-هو أبو الحسن عبد الكريم بن فضال القيرواني، عاش في القرن الخامس الهجري، وشهد نكبة القيروان سنة 449هـ ورثاها كبقية شعراء عصره… (انظر عنه: الخريدة للأصفهاني: قسم شعراء المغرب والأندلس –ج2، ص: 188 وديوان الحصري القيرواني أبو الحسن)، ص: 38.
 
5-ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب، ج1، ص: 347 وانظر ما بعدها، وانظر أيضاً: المسعودي: مروج الذهب، ج3، ص: 511، وما بعدها (ط. الجزائر).
 
6-المسعودي: المصدر السابق الصفحة نفسها.
 
7-المسعودي: المصدر نفسه، ص: 511-512 وردت الأبيات دون ذكر قائلها، ووجدت اسم الشاعر في كتاب الدكتور الطاهر أحمد مكي: دراسات أندلسية، ص: 255، لكنه لم يذكر المصدر الذي استقى منه المعلومة.
 
8-المسعودي: المصدر السابق، ص: 513-514.
 
9-الدكتور الطاهر أحمد مكي: دراسات أندلسية، ص: 255-226.
 
10-ابن قتيبة: الشعر والشعراء، ص: 586 (ط. دار إحياء العلوم –بيروت). وانظر أيضاً، الجاحظ: الحيوان، ج1، ص: 224و 354. (تحقيق عبد السلام هارون).
 
11-ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب، ج2، ص: 129 وانظر أيضاً: المسعودي: مروج الذهب، ج4، ص: 236، 242 وما بعدها.
 
12-ابن الرومي: الديوان، ج2، ص: 419 (تحقيق الدكتور حسين نصار).
 
13-المصدر نفسه، والصفحة نفسها.
 
14-الدكتور عبد العزيز عتيق: الأدب العربي في الأندلس، ص: 320.
 
15-الدكتور الطاهر أحمد مكي: دراسات أندلسية، ص: 229.
 
16-انظر عن الفتنة: ابن عذاري: البيان المغربن ج3، ص: 42 وما بعدها (ت: ليفي بروفنسال. و: ج.س. كولان).
 
17-ابن الخطيب: أعمال الأعلام، ونشر باسم تاريخ إسبانيا الإسلامية، ص: 107، وانظر القصيدة كاملة هناك (107-108) تحقيق ليفي بروفنسال، ط2، 1956، نقلاً عن الدكتور الطاهر أحمد مكي: المرجع السابق، ص: 240.
 
18-ابن الخطيب: المصدر السابق، ص: 105، نقلاً عن الدكتور إحسان عباس: تاريخ الأدب الأندلسي (عصر سيادة قرطبة)، ص: 138-139.
 
19-ابن عذاري: المصدر السابق، ص: 110.
 
20-انظر المصدر السابق، الصفحة نفسها، وانظر أيضاً: ابن بشكوال: الصلة، ج1، ص: 35 (ط. القاهرة: 1955م).
 
21-ابن شرف، الديوان، ص: 20 (تحقيق: د.حسن ذكرى حسن).
 
22-المصدر نفسه، ص: 24.
 
23-24-ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب، ج3، ص: 298 وانظر ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج2، ص: 85 والسيوطي: بغية الوعاة، ج1، ص: 504 (ط.القاهرة) وياقوت الحموي: معجم الأدباء، ج8، ص: 111 (ط.القاهرة).
 
25-رابح بونار: المغرب العربي، تاريخه وثقافته، ص: 360-361.
 
26-رابح بونار: المرجع نفسه، ص: 361.
 
27-28-29-30-نفسه، ص: 362.
 
31-المرجع نفسه، ص: 363.
 
32-ديوان ابن شرف، ص: 89-90-91-92. (تحقيق. د.حسن ذكرى حسن).
 
33-المصد نفسه، ص: 86.
 
34-ديوان الحصري، ص: 143 (تحقيق محمد المرزوقي والجيلاني بن الحاج يحي).
 
35-المصدر نفسه، ص: 23، وانظر ما بعدها.
 
36-المصدر نفسه، ص: 81.
 
37-المصدر نفسه، ص: 125.
 
38-المصدر نفسه، ص: 125-126.
 
39-المصدر نفسه، ص: 38.
 
40-انظر إيمْرِي نِفْ: المؤرخون وروح الشعر، ص: 2 (ترجمة الدكتور توفيق اسكندر) ط. دار الحداثة.
 
عن مجلة التراث العربي- دمشق - العدد 81-82\2003م