القيمة وتقسيمها إلى نوعين
1. قيمة استهلاك .
2. قيمة استبدال .
تقسيم الاقتصاديين الغربيين القيمة إلى نوعين وهما : قيمة الاستهلاك ،
وقيمة الاستبدال ، يعني أن القيمة نسبية وليست حقيقية ، أي هو تقسيم
اعتباري لا ينطبق على واقع القيمة ، أي ليس تعريفا لواقع القيمة ، وليس
وصفا لها.
لأنها إنما هي قيمة تعرّف بالنسبة للمستهلك ، وقيمة تعرّف بالنسبة
للاستبدال أي استبدالها بسلعة أخرى ، فهل هذا التعريف مطابق لواقع القيمة ؟
أي هل هذا حقيقة هو واقع القيمة ؟ الصواب أن هذا التعريف خطأ ومخالف
للواقع إذ القيمة هي شيء حقيقي ثابت مشخص يشار إليه بالأصبع أنه كذا .
وتفسير ذلك أن حقيقة قيمة الشيء المنتج أي قيمة السلعة أو الخدمة هو :
مقدار ما فيها من منفعة ، مع ملاحظة عامل الندرة . وهذا المقدار من المنفعة
هو خاصة إذا توفرت في الشيء جعلته صالحا للاستهلاك .
وكلمة "خاصّة" نقول "خاصّة" وليست خاصّيّة : أننا عندما نأخذ الأشياء :
السلع والخدمات لنستهلك ما فيها من منافع ، نضع ترتيب هذه الأشياء بمنافعها
، فنصطلح على ما يأتي – مع الاستعانة بالحقائق العلمية والاكتشافات
الجديدة في المختبرات وغيرها مثل اكتشاف البروتينات والفيتامينات ، وتقسيم
المواد التي يتطلبها الجسم إلى نشوية ودهنية وسكرية – بعد هذه الاكتشافات
أخذنا نلمس بوضوح أن ما في حبة البطاطا غير ما في حبة البندورة وغير ما في
البيضة ، كما أن ما في الشعير غير ما في القمح وغير ما في الأرز والشوفان .
وهكذا مئات وآلاف الأصناف من السلع ، ومئات الأصناف من الخدمات . فالتنقل
بالسيارة الصغيرة غير التنقل في الباص أو الحافلة الكبيرة ، وغير الطائرة ،
ومعلم مادة الفيزياء غير مادة الرياضيات أو التاريخ وغيره ، والعامل في
البناء غير العامل في النسيج ، وغير عامل التنظيفات في الشوارع ، والخبير
الفني في الحاسوب غير الخبير في جيولوجيا الأرض أو المياه . هذه اختصاصات
متعددة جدا . فلو أخذنا كل واحد من هذه على حدة لوجدنا فيه خاصّةً تميزه عن
غيره تكمن فيها المنفعة التي يتم تقدير القيمة على أساسها ، وبالتالي فإن
هذه الخاصة لها تأثير من حيث هي على المستهلك ، يبحث عنها ويطلبها ، ويرى
من نفسه ارتياحا معينا أو متعة معينة عند الحصول عليها . فالخاصّة إذن هي
علاقة بين المنفعة ومستهلك معين .
مثلا نجلس على مائدة الإفطار ، فأحدنا يتناول رأسا من البصل ، وآخر يتناول
رأسا من الفجل ، وثالث يتناول قرنا من الفلفل ، وهذا يبحث عن الزعتر أو
الزيت ، وهكذا كل واحد يبحث عن خاصّة تلائمه يجدها في مثل هذه الأنواع .
لقد أجريت تجارب على أطفال ، فكانوا يُدْخَلون إلى مطعم فيه أغلب المأكولات
فيتناول كل طفل غير الذي يتناوله الآخر نوعا وكما وبعد الفحص للأطفال وجد
أن كلا منهم يأخذ ما ينقصه في جسمه ، وبعد زمن ، صار التقارب واضحا بين ما
يأخذه الأطفال وبخاصة للأنواع كاللحم والخبز والفواكه وغيرها .
أما ما يسمونه (المنفعة الحدّيّة) فإنهم أخطأوا في التدرج في تفسير
المنفعة إلى أن وصلوا إلى حد انتهى فيه الإشباع ، فقالوا : الآن نستطيع أن
نضبط معنى القيمة ، أي عند الحد الذي انتهى فيه الإشباع عند آخر وحدة من
وحدات هذه السلعة التي شاركت في الإشباع .
نتساءل الآن : هل المنفعة الموجودة في الوحدة الأولى التي بدأنا بها
الإشباع تختلف عن الوحدة الأخيرة التي تم عندها الإشباع ؟ بمعنى أوضح : هل
المنفعة الموجودة في الوحدة (أ) تختلف عنها المنفعة الموجودة في الوحدة (ج)
التي انتهى عندها الإشباع ؟ أي هل الرغيف الأول الذي بدأنا به إشباع جوعة
المعدة تختلف منفعته عن الرغيف الثالث الذي تم عنده إشباع جوعة المعدة ؟
ومتى كانت الوحدات المنتجة من سلعة ما – مهما تناهت في الكثرة – يختلف
واحدها عن الآخر ؟
مثال على ذلك للتوضيح : لو أن خبّازا اشتغل في يوم واحد في فرن واحد وأنتج
عشرة آلاف رغيف ، هل هناك فرق بين هذه الأرغفة حتى نقول إن منفعة هذا غير
منفعة هذا؟
نقول لهم : إن الصورة عندهم عكسية تماما ، حيث إن الذي يحصل هو أن شهية
الإنسان الجائع تكون في بداية الأكل قوية ، فتكون أهمية الرغيف الأول عنده
كبيرة حيث تنكسر به سَوْرة الجوع ، فالأهمية هي عند الجائع الذي بدأ في
الإشباع ، سواء أكل رغيفا واحدا أم عشرة أرغفة ؛ فالأهمية هي عنده هو ، أما
الأرغفة من الأول حتى العاشر ، وحتى الرغيف الخمسين كلها سواء ، المنفعة
فيها واحدة فبدل أن يقولوا هذا ، جعلوا الأهمية في الرغيف ، وهي في حقيقتها
عند من يتناول الرغيف ، وعلى هذا فلا يوجد ما يسمى عندهم (بالمنفعة
الحدّيّة) .
ولكنهم لما كانوا يريدون أن ينتجوا ما يتلاءم ومتطلبات السوق ، كان لا بد
من أن يقوموا بدراسات توفيقية ليجعلوا إنتاجهم يتساوى مع الطلب حتى لا يؤول
بهم السوق إلى الكساد في الكم الكبير من منتجاتهم ، وحتى يحصلوا على الثمن
الذي يحقق لهم ربحا .
فنظرية (المنفعة الحدّيّة) هي في حقيقتها عندهم نظرية للثمن ، من أجل
تركيز الإنتاج عند نقطة معينة ، يضمن فيها استمرار الإنتاج متساويا مع
طلبات الاستهلاك ، وبالثمن الذي يغطي نفقات الإنتاج مع بقاء ربح مقبول
بعيدا عن الاحتكارات أو المنافسات غير الحرة أو غير الكاملة في السوق عاديا
.
أما فراغ السوق أو نقص السوق من منتجاتهم بحيث يؤدي إلى الإلحاح في الطلب
مهما ارتفع الثمن ، فهذا غير وارد في الأسواق العادية ، لأنهم يركزون على
الإنتاج ، ودراساتهم كلها منْصبّة على الإنتاج ، فالذي يخشونه فقط هو إغراق
السوق بالسلع المنتجة ، مما يؤدي إلى كساد في السلع ، وضعف الطلب عليها
فيؤول بهم الحال إلى الخسران ، ويكونون بذلك قد كسروا مقياسهم للأعمال في
الحياة وهو (النفعية) .
فالمنفعة الحدية في حقيقتها هي مدى الأهمية عند من يتناول وحدات سلعة ما
يشبع بها إحدى جوْعاته ، وأما وحدات السلعة ذاتها فكلها سواء ، ومنفعتها
متساوية ؛ ولكن الذي حدا بهم إلى هذا التفسير الخاطئ ، والتعريف المخالف
للواقع ، هو تكثيف دراساتهم على تركيز الإنتاج وزيادته ، مع المحافظة على
أثمان مريحة لتنمو ثرواتهم ، وتزداد دخولهم .
ثم بعد ذلك ومن أجل هذا وسّعوا دراساتهم واهتماماتهم في هذا المجال ،
وأخذوا يبحثون عن أسواق جديدة ، وخرجوا خارج حدود بلادهم ، وأوجدوا لهم
مناطق نفوذ ، تكون أسواقا مهيأة لتصريف منتوجاتهم بالأثمان التي يفرضونها ،
كما أن الدراسات نفسها قد فتحت أمامهم مجالا أكثر أهمية في الصراع وهو
وجود الخامات المذهلة في مناطق النفوذ هذه ، فكان الاستعمار ، وكانت الحروب
.
فقد قامت الدول المستعمرة هذه بحماية المستثمرين والمنتجين وعملت على
تأمين سلامة تنقّل منتوجاتهم ، كما عملت على ضمان استثماراتهم وتأمين
أرباحهم وفوائدهم حتى من الضرائب أو الجمارك إلا بالقدر اليسير .
فهذه الشركات العملاقة والتجمعات الاقتصادية ، والأسواق المالية والبورصات
التجارية ، قد أصبح وجودها وبالا وشرّا مستطيرا على العالم بأسره . فأخذوا
يفتعلون الحروب والمنازعات العرقية والحدودية ويغذّونها ، ويهيئون لها
مواد وقودها من سلاح وغيره لتبقى مصانعهم دائبة الحركة ، فمصنع واحد من
مصانع السيارات مثلا ينتج أكثر من ثمانين مليون سيارة …… وقس على هذا .
إذا فالقيمة شيء حقيقي ثابت وليست شيئا نسبيا أو اعتباريا . أي هي حقيقة
ثابتة لها واقع مشخص ، وهي : مقدار ما في الشيء من منفعة مع ملاحظة عامل
الندرة .
ولنأت الآن إلى جملة (ملاحظة عامل الندرة) عامل الندرة يؤثر في ارتفاع ثمن
السلعة وانخفاضها ، ولا يؤثر في أصل تقدير الثمن للسلعة ، أي أن السلعة
قليلة في السوق أو كثيرة لا يؤثر على أن لها ثمنا ، أو ليس لها ثمن ،
فقلتها لا تجعل لها ثمنا ، وكثرتها لا تجعلها بدون ثمن ؛ بل كونها لها ثمن
أو ليس لها ثمن راجع لما فيها من منفعة ، وليس لقلتها أو كثرتها . ومن هنا
كانت قيمة الشيء هي مقدار ما فيه من منفعة ، بغض النظر عن كثرته أو قلته ؛
وكذلك كانت ندرتها ليست جزءا في تقدير ثمنها . ولكن بما أن قلتها تزيد
ثمنها ، وكثرتها تنقص ثمنها ، كان لا بد من ملاحظة عامل الندرة ولكن مجرد
ملاحظة دون اعتباره جزءا في التقدير .
فالحقيقة أن القيمة للشيء هي مقدار ما في ذلك الشيء من منفعة عند التقدير
مع ملاحظة عامل الندرة في ذلك الوقت الذي جرى فيه التقدير ، ودون اعتبار
عامل الندرة جزءا في التقدير ، وبذلك يكون الاعتبار لمقدار المنفعة في
الشيء وهو الأساس في التقدير .
أما القيمة عند استبدال سلعة بسلعة أخرى أو بخدمة من الخدمات – إن قدرت
منفعتها بمنفعة سلعة أو جهد كان هو التقدير الصحيح ، وكان تقديرا أقرب إلى
الثبات في المدى القصير . وهذا أمر يستطيع أن يصطلح عليه الناس وفي كل
الأزمان ، نتيجة لتجاري ذوي الخبرات . فتجدهم يخضعون ذلك للمساومة الدقيقة ،
وكأنهم يساومون بالأثمان .فكانوا يستبدلون العنب بالزيتون ، والتين
بالترمس والقرع بالخروب والزيت ويشترون حاجاتهم من الحوانيت بالقمح وبالذرة
وبالبيض بدلا من النقود ، وكانت تقديراتهم لمنافع هذه الأشياء ،
واستبدالها بعضها ببعض قريبة إلى الصواب .
كل ذلك مبني على مقدار المنفعة التي في السلعة ، فمقدار المنفعة التي فيها
هو الذي يتحكم في تقديرها ، وبالتالي يكون مقدار المنفعة هو وحدة القياس
في المال والجهد.
لكن السلعة أو الخدمة إن قدرت بالثمن يكون تقديرا اعتباريا لا تقديرا
حقيقيا ، وتصبح حينئذ أقرب إلى التغير في كل وقت تبعا للسوق ، وحينئذ يبطل
كونها قيمة ولا يصدق على واقعها حينئذ لفظ قيمة وإنما يصبح أداة يحصّل فيها
نقود بحسب السوق لا بحسب ما فيها من منافع .
فالمنفعة هي وحدة القياس سواء للسلع أو الجهود ، والثمن هو مقياس التبادل ،
ويكون مباشرة للمال ومباشرة للجهد. فالثمن هو للسلعة ، والأجر هو للجهد .
فالقيمة غير الثمن ، وغير الأجر لأن القيمة ثابتة في حين أن الثمن والأجر كل منهما غير ثابت .
والمنفعة تقدّر بذاتها للشيء بقطع النظر عن كونه موجودا بكثرة أو نادر
الوجود . (ويكون التقدير في السلعة بالنسبة لمقدارها بشيء آخر من سلعة أو
نقد أو خدمة ، وبذلك يكون الاعتبار منصبّا على مقدار البدل الفعلي من سلع
أو خدمات أو نقود) .
فمثلا تقدير قيمة صاع من القمح بمنفعة صاعين من شعير ، هذه القيمة ثابتة
سواء أكان الشعير بكثرة أو كان نادرا ، وكذلك القمح سواء أكان موجودا بكثرة
أو كان نادرا حتى لو كان ثمن الشعير أغلى من ثمن القمح ، فالندرة ليست
جزءا من تقدير المنفعة في الشيء ، ولكنها تلاحظ عند تقدير القيمة . أذكر
مثلا من واقع حياتنا التي عشناها ، ففي الحرب العالمية الثانية ، غلا ثمن
التبن ، بحيث زاد أضعافا عن ثمن القمح ، فبدل أن يشترى كيلا صار يُشترى
وزنا ؛ فكان أصحاب المحاصيل عندما يبيعون التبن لمن يتاجرون به يضعون معه
شيئا من القمح من قبيل الغش ليزداد وزن التبن . هذا أمر شاهدناه ولمسناه .
لكن الأمر في حقيقته ، هو أن قيمة القمح أكبر من قيمة التبن بكثير وإن كان
التبن أغلى ثمنا . فغلاء الثمن مرتبط بالسوق من حيث العرض والطلب . وأما
قيمة الشيء فتبقى هي هي ، وهي مقدار ما فيه من منفعة .
الثمن
الثمن هو تقدير المجتمع لقيم السلع ، والأجر هو تقدير المجتمع لقيم الجهود
. والنقود هي الشيء الذي يُعبّر به عن هذا التقدير . وهي الشيء الذي
يمكننا من قياس السلع والجهود المختلفة ، وردها إلى أساس واحد ، فتسهل
عندئذ المقارنة بين السلع المختلفة ، والمقارنة بين الجهود المختلفة ،
بردّها إلى وحدة هي المقياس العام ، ويجري دفع الثمن للسلعة ، وإعطاء الأجر
للأجير على أساس هذه الوحدة .
إذن فالنقود هي سلعة من السلع اصطلح عليها في شتى البلدان أن تقسم إلى
وحدات لتصبح هذه الوحدات المقياس الذي تقاس به منفعة الشيء ومنفعة الجهد .
واتفق أن تكون هذه الوحدات واسطة للمبادلة .
وتقدر قيمة النقود بمقدار ما فيها من القوة الشرائية ، أي بمقدار ما
يستطيع الإنسان الحصول بواسطتها على سلع أو جهود . وعلى ذلك فلا بد أن تكون
للشيء الذي يعبر عن تقدير المجتمع لقيم السلع وقيم الجهود قوة شرائية حتى
يكون نقدا ، أي قوة يستطيع كل إنسان بواسطتها الحصول على السلع والجهود .
والأصل أنه لا بد أن تكون لهذا الشيء قوة ذاتية ، أو يستند إلى قوة ذاتية ،
أي أن يكون هو نفسه ذا قيمة معتبرة عند الناس حتى يكون نقدا .
إلا أن الواقع في إصدار النقود عند دول العالم اليوم أن منها من جعلت
نقودها قوة ذاتية ، أو تستند إلى قوة ذاتية ، ومنها من جعلت نقودها نقدا
اصطلاحيا أي تصطلح على شيء أنه نقد ، وتجعل فيه قوة شرائية . فالذهب والفضة
لهما قوة ذاتية ، فتكون بذاتها نقودا كما تكون أساسا تستند إليه النقود ،
بأن توضع كميات من الذهب والفضة كاحتياطي يوضع في خزينة الدولة ، يصدر
مقابلها أوراقا نقدية تستند إلى هذا الاحتياطي وتمثله ، وتكون فيها ضمانة
استبدالها إلى ما يعادلها من الذهب والفضة .
إن العرض والطلب والثمن هي قوى السوق عند الغربيين ؛ فالغربيون لا يفصلون
الثمن عن العرض ، فالثمن لذاته في الحقيقة ليس موضع الاهتمام ، لأن نظرتهم
إلى الإنتاج من حيث زيادته ، واستمرار زيادته ، جعلتهم يراقبون السوق من
زاوية مراقبتهم للثمن .
والآن يعيش العالم في إنتاجه وصناعاته المختلفة في ظل شركات عملاقة ، وتحت
مظلة تجمعات وتحالفات اقتصادية دولية ، تقذف إلى أسواق العالم كميات هائلة
من إنتاجها ، تضيق به المخازن والأسواق وساحات العرض . فحتى لا يحصل
التضارب بين المنتجين ، وحتى يضمنوا تقبل الأسواق لهذه المنتوجات والصناعات
بشكل متوازن ، عمدوا إلى تشكيل لجان ، أو بالأحرى ، وجد عندهم شركات تختص
بعملية مسح للأسواق وللمستهلكين وللسلع والخدمات ، وأيها عليه إقبال أكثر
وطلب أكثر ، وأجروا حسابات وإحصائيات دقيقة لكل سلعة ولكل بلد ولكل سوق ،
وخلصوا إلى نتيجة تصريف الأسواق ، واستهلاك السلع بالكميات والأرقام ؛
وتقوم هذه الشركات بدورها بتزويد شركات الإنتاج ومصانع السلع بهذه
الإحصائيات والأرقام مقابل عمولة معينة .
فكما جعلوا مقاييس لصرف الماء والكهرباء بتركيب ساعات وعدادات تعد الصرف
والاستهلاك بالكيلوواط وبالأمتار المكعبة ، جعلوا للأسواق وتصريفها للسلع
ولكميات الاستهلاك مقياسا دقيقا يحسبون به أنواع الأسواق وما وصلها من
كميات السلع ، وما استهلك منها ، وما كان أكثر استهلاكا ، أو أقل طلبا ،
وتوزع نتائج هذه القياسات والحسابات على الشركات صاحبة الشأن في ارتيادها
للأسواق مقابل أجر معين . وهناك بعض الشركات يكون لديها مندوبون وظيفتهم
متابعة الأسواق لدراسة ما يستهلك وما يتبقى أي ما يطلبه السوق وما يزيد عن
طلبه أو ينقص من منتوجات تلك الشركات . فقد تنقص من إنتاجها أو تضاعفه
حفاظا على استمرار عجلات مصانعها على الدوران لحفاظها على الثمن .
وخلصوا بنتيجة نهائية أن الثمن هو صاحب الدور في توزيع السلع والخدمات على
أفراد المجتمع ، وهو الذي يوجد التوازن بين الإنتاج والاستهلاك . وهو الذي
تنتظم به عمليات العرض والطلب بصورة متكافئة .
فبالثمن : آلية الثمن أو ميكانيكية الثمن ، يخيم على الأسواق الهدوء
والاستقرار ، بتوازن العرض مع الطلب ، بحيث لا يبقى مجال للجشعين ولا
للمحتكرين ، وبالمقابل يتساوى المستهلكون في إشباع حاجاتهم ورغباتهم بصورة
تلقائية بلا تخمة ولا حرمان (كما يقولون) وتبقى عجلات المصانع دائبة
الدوران ، ووسائل الشحن مُوْسقة بأحمالها ، وأرصفة الموانىء مكتظة ، بما
يفرغ فيها من أصناف البضائع ، وتظهر على أعظم المستويات الدولية حركة
اقتصادية نشطة ، يطمئن لها كبار المستثمرين ، يجلسون على عروش ممالكهم
الإنتاجية الاحتكارية كالحيتان ، يأتيها صغار السمك ، فتتناوله طعاما سائغا
.
هذا هو المبدأ الرأسمالي ، وهذه هي الحرية الاقتصادية ، هذا هو مقياس
الأعمال وهو (النفعية) هذه هي النظرة المادية للإنسان والحاجات الإنسان .
وأولا وأخيرا هذه هي عقيدة فصل الدين عن الحياة .
مناقشة:
نحن لا نسلم بصحة قولهم ، فهو خطأ محض مجانب للصواب ، ومخالف للواقع ؛ كيف
يكون الثمن هو المنظم للتوزيع ؟ وبضمانة قاعدة حرية التملك ، وكفالة حرية
العمل وحرية الإنتاج ، وأي إنتاج ؟ ومن المعلوم بداهة أن موضوع توزيع
الثروة على أفراد المجتمع يكون بأفكار وأحكام تنظيم العلاقات وبجملتها وضع
الخطوط العريضة والأحكام التفصيلية ليتم توزيع الثروة على الوجه الذي يضمن
لكل فرد في المجتمع إشباع حاجاته الأساسية إشباعا كليا ، وتمكينه من إشباع
حاجاته الكمالية .
أما بالنسبة للخطوط العريضة التي يضعها النظام الاقتصادي في الإسلام فهي :
1. إيجاد التوازن في المجتمع لتنتفي الطبقية من أجل توزيع
الثروة بين الناس فقد منع الإسلام حصر تداول المال بين فئة معينة من الناس ،
قال تعالى : {كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم} .
2. منع كنز المال، قال تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم}.
أما بالنسبة للأحكام التفصيلية : فقد تكفل الإسلام برعاية شؤون أفراد
المجتمع فردا فردا بالوقوف على إشباع حاجاتهم الأساسية إشباعا كليا ، مع
توفير الأمن والطمأنينة لهم ، وتكفل بإلزامية التعليم ومجانيته ، ومجانية
التطبيب والعلاج .
فقاعدة حرية التملك هي التي أوجدت الاختلال في التوازن بكسرها كافة القيود
، وإهدارها للقيم ، وعدم اعترافها بالأخلاق والمثل العليا . كذلك عندما
تكون (النفعية) هي مقياس الأعمال كلها يصبح المال غاية يلهث وراءها ذوو
الميول المادية وشر المصائب أن يبقى المال لذاته غاية ، فتغيب الفضائل ،
وينقلب أبناء المجتمع إلى ثعالب يتربص بعضهم ببعض ، أو وحوش كاسرة يأكل
القوي الضعفاء فالمقياس الصحيح للأعمال هو قاعدة (الحلال والحرام) أي
الرجوع إلى الحكم الشرعي عند القيام بالعمل أي النظرة إلى الصلة بالله ،
وهيمنة التقوى على النفوس ، والإيمان بأن الرزق قضاء . فيمتنع الإنسان في
معاملاته المالية وشؤونه الاقتصادية ويمتنع عن الغش ، والغبن والاحتكار ،
ويعلم علم اليقين أن الربا حرام ، فهذه الكيفيات في التعاملات المالية تبقي
المجتمع متوازنا ، ويستطيع كل فرد في المجتمع أن يشبع حاجاته الأساسية
دونما عناء عن طريق الكسب الحلال ؛ فالمال واسطة التبادل وليس غاية لذاته .
عندما تكون (النفعية) مقياسا للأعمال ينتفي الصدق وتنتفي الأمانة من
المجتمع، ويحل محلها الكذب والغش والاحتيال. عندما يكون المجتمع لا لون له
بتطبيق قاعدة الحريات، يبرز في المجتمع الفساق والمجّان، والمغنون
والراقصون والراقصات ، وتنتشر دور البغاء والملاهي الليلية ودور القمار ،
ويُروّج لأفكار الفساد والإلحاد ، ويموه السياسيون أعمالهم بالتزوير ،
فيصورون الهزائم نصرا ، والخيانة بطولات ، ودعاة الإسلام إرهابيين متطرفين .
نتساءل : كيف يكون الثمن هو الحافز على الإنتاج ؟ وهل صحيح أن الإنسان لا يقوم بالأعمال إلا وينتظر المكافآت المادية ؟
نقول : إن الإنسان فيه غرائز وحاجات عضوية فطريا ، وهذه كلها تتطلب
الإشباع . ولكن هذه الحاجات والميول والرغبات ليست مادية فقط ؛ فلدى
الإنسان الميول الروحية ، ولديه تطلعات معنوية وفيه حوافز إنسانية وأخلاقية
، فهذه كلها لا يقوم بها الإنسان لقاء المكافآت المادية . صحيح إن الإنسان
يقوم بأعمال ينتظر عليها المكافأة المادية . ولكن الميول الروحية كالتقديس
والعبادة لا يبتغي من القيام بها إلا الثواب من الله في الآخرة ، ولا يخطر
بباله عند القيام بها أي أجر مادي . كذلك ينفق الإنسان أموالا طائلة لبناء
مسجد أو لمساعدة الفقراء والمحتاجين . كما أن الإنسان يقوم بأعمال يرجو من
القيام بها المفاخرة والثناء .
فمثل هؤلاء لا يخطر ببال أحدهم المكافأة المادية. كذلك لو أن خطرا داهم
البلاد من الخارج ، فترى أبناءه يهرعون للدفاع عنه بالعمل في الخنادق
والسهر الليلي والتدريبات وما إلى ذلك ولا يخطر ببال أحدهم المكافأة
المادية .
فالقول بأن الإنسان إنما يقوم بالأعمال من أجل المكافأة المادية قول غير صحيح وبعيد عن الصواب .
نقول أيضا لماذا حشرتم قاعدة حرية التملك في البحث ؟ وهي التي أوجدت الخلل
في التوازن لأنها كسرت القيود التي ينضبط بها السلوك ، وتنتظم بها
العلاقات ، وفتحت الباب على مصراعيه ليستعمل القوي قواه ، واللبق لباقته في
تحصيل المال ، ويبقى الضعيف والأبله وقليل الحيلة بعيدا منبوذا وكأنه لا
يصلح للحياة .
ونظرة إلى الأسواق وما فيها من فائض هائل من السلع والخدمات وما يقابلها
من الحشود الهائلة من الناس الجياع والعراة والمحرومين ، يمرون بالأسواق
والسلع مكدّسة ولا يستطيعون تناولها فيزدادون حرمانا وألما . فأين هو الثمن
؟ وأين دوره ؟ وتفعيل آليته وميكانيكيته ؟ إنه وهم وقول هراء .
ثم إن إيجاد التوازن بين العرض والطلب هو في الحقيقة في يد المنتجين
أنفسهم وإن كانوا يراقبون الأسواق وقوة الطلب أو ضعفه بمراقبتهم للأثمان
فيزيدون من إنتاج السلع أو ينقصون. فالثمن في أيديهم يتحكمون به كمقياس
(ترمومتر) فتراهم لا يقنعون بالربح القليل ، بعد أن انعدمت لديهم النظرة
الإنسانية ، وأصبح المال عندهم غاية لذاته ، خرجوا بصناعاتهم ومنتوجاتهم
خارج حدود بلادهم وأوجدوا لهم مناطق نفوذ ، وفتحوا فيها أسواقا يفرضون
الأثمان العالية التي تناسبهم ، ووجدت الاحتكارات والتجمعات ووجد ما يسمى
(الكونسوريوم) وأصبح الاستعمار ضرورة لا بد منها . كما أنهم على استعداد
لإشعال الحروب المدمرة من أجل الحفاظ على مناطق النفوذ ، وإيجاد مناطق نفوذ
جديدة . فالاستعمار جزء من عقيدة المبدأ الرأسمالي ، بل هو الطريقة التي
ينتشر بها هذا المبدأ .
وأخيرا : فزيادة الدخل الأهلي ووفرة الإنتاج القومي وإغراق الأسواق بفائض
الإنتاج ، وشتى أنواع الخدمات ، لا يعالج المشكلة الاقتصادية الحقيقية ،
وهي توزيع الثروة على أفراد المجتمع فردا فردا لإشباع حاجاتهم الأساسية
إشباعا كليا ، وتمكينهم من إشباع حاجاتهم الكمالية . وستبقى المشكلة قائمة
بلا علاج ، وسيبقى التباين الطبقي موجودا في المجتمع ؛ الغنى الفاحش والفقر
المدقع ، ما دامت الدراسات منصبة على علم الاقتصاد ، وما دام المتشرعون
بعيدين عن فهم المشكلة الاقتصادية ، بعيدين عن وضع التشريعات التي تعالجها
علاجا جذريا .