خوارم المروءة :
يُقصد بالخوارم جمع خُرم : تلك النقائص التي تفقد الشيء تمامه .يقول الشاعر :
مررتُ على المروءةِ وهي تبـكي فقلتُ : عَلامَ تنتـحبُ الفتاة ؟
فقالت : كيف لا أبـكي وأهلي جمـيعاً دون خَـلق الله مـاتوا
· كثرة المزاح والمداعبة القولية والفعلية ولاسيما مع من لا يعرفهم الإنسان ؛ لما في ذلك من إسقاطٍ هيبته ، والإقلال من مكانته ، و لأن كثرة المزاح مدعاةٌ لحصول الخصام ، وإثارة الأحقاد في النفوس . قال الشاعر :
فإيـاك إيـاك المزاحَ فـإنه يُجري عليك الطفل والرَجل النذلا
ويُذهب ماء الوجه بعد بهـائهِ ويورث بعـد العـزِ صاحبـه ذُلا
وهنا يجدر التنبه إلى أن هذا لا يعني أن يكون الإنسان عبوساً منقبضاً ؛ فإن هذا مما يُذم و يُكره ، ولكن هدي الإسلام أن يكون الإنسان جاداً في قوله وعمله وكل شأنه ، مع شيءٍ من البشاشة وطلاقة الوجه لما روي عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تحقِرَنَّ من المعروف شيئاً ، ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طَلْقٍ " . ( مسلم ، الحديث رقم 6690 ، ص 1145 )كما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى عُماله :" امنعوا الناس المزاح ؛ فإنه يذهب بالمروءة ، ويوغر الصدور ". وما ذلك إلا لما ينتج عن كثرة المزاح - في الغالب - من الاستخفاف وقلة الهيبة وذهاب الحشمة .
· أن يأكل الإنسان طعامًا أو يشرب شراباً وهو يمشي في الأسواق والطرقات ، فهذا فعلٌ وطبعٌ يتنافى مع كمال المروءة ، ولا يتفق ومكارم الأخلاق ومحاسن الصفات . ولذلك فقد ورد أثرٌ عن ابن سيرين أنه قال : " ثلاثةٌ ليست من المروءة : الأكل في الأسواق ، والإدِّهان عند العطار ، والنظر في مرآة الحجام " . ويتبع لذلك عادة قضم ما يُسمى (الفصفص أو الحب وغيره من أنواع المكسرات المعروفة) أمام الناس ، ولا سيما في أماكن التجمعات والشوارع والأسواق والميادين العامة والمجالس لما في ذلك من مخالفةٍ للمروءة ، وعدم احترامٍ للآخرين في هذه الأماكن .
· عدم احترام الصغار للكبار سواءً أكان ذلك في المجالس أم في المناسبات ، وعدم توقيـر كبار السن و إنزالهم منازلهم ، حتى أصبحنا في وقتنا الحاضر نرى الصغار يُسابقون الكبار في كل شئ ، وقد يعارضونهم في الكلام ؛ أو يسخرون منهم والعياذ بالله ، وهذا أمرٌ محرمٌ ؛ لأن الله تعالى وهو رب العالمين يُكرم ويُجل ذي الشيبةٍ المسلم .فقد روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المُسلم " ( أبو داود ، ج 4 ، الحديث رقم 4843 ، ص 261 )وهنا تجدر الإشارة إلى أن على الآباء تربية أبنائهم على آداب المروءة وتعويدهم إياها منذ نعومة أظفارهم حتى لا تسبق إليهم الأخلاق والطباع السيئة فتحول بينهم وبين مكارم الأخلاق وجميل الطِباع قال الشاعر :
إذا المرءُ أعيتْهُ المروءةُ ناشِئاً فمطلبُها كهلاً عليه عَسِيـرُ
· أن يعتاد الإنسان التبول واقفاً لغير حاجة لاسيما في دورات المياه العامة ونحوها ؛ لأن الأولى أن يتبول الإنسان جالساً لما في ذلك من المنافع الصحية ، والاحتياط لعدم انتشار النجاسة أو التلوث بها . أما إذا دعت الحاجة إلى ذلك من مرضٍ ونحوه فلا بأس في ذلك إن شاء الله .
· الإكثار من تناول الطعام والإقبال عليه بنهمٍ شديدٍ لاسيما عندما يكون الإنسان مدعواً إلى وليمةٍ أو نحو ذلك ؛ لما في ذلك من منافاةٍ للأدب ، ولما فيه من مخالفة لهدي الإسلام عند تناول الطعام " وقد ذكر ابن عبد البـر عن علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه أنه كان إذا دُعي إلى طعامٍ أكل شيئاً قبل أن يأتيه ، ويقول : قبيحٌ بالرجل أن يُظهِر نُهمته في طعام غيره " .
· التجشؤ بصوتٍ مرتفعٍ أو ما يُعرف بعادة " التَكَـعُّرْ " ، ويُقصد بذلك إخراج صوتٍ مرتفعٍ ومزعجٍ من الفم في حضرة الناس ، وعادةً ما يكون التجشؤ نتيجةً للشِبع وكثرة الأكل . وهنا تجدر الإشارة إلى أن من أسوأ العادات وأكثرها أذى في الصلاة أن يتجشأ آكل الثوم ، أو البصل ، أو الكُراث في صف المصلين فيُزعجهم ويقطع خشوعهم وتخرج من فمه رائحة كريهةٌ يؤذي بها عباد الله من الملائكة والمصلين ؛ فعن ابن عمر ( رضي الله عنهما ) قال : تجشأ رجلٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " كف عنا جُشاءك فإن أكثرهم شِبعاً في الدنيا أطولهم جوعاً يوم القيامة " ( الترمذي ، ج 4 ، الحديث رقم 2478 ، ص 649 )
· أن يأتي الإنسان ببعض الأقوال أو الأفعال الهزلية التي تُضحك منه الناس كأن يُقلد شخصاً في كلامه ، أو حركاته ، أو نحو ذلك لغرض السخرية منه وإضحاك الآخرين عليه .ويعظُم أمر هذا السلوك الخاطئ عندما يكون المُقَلَّد مبتلىً بذلك الشيء أو تلك الصفة . فعن بُهز بن حكيم قال : حدثني أبي عن جدي قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " ويلٌ للذي يُحدِّث بالحديث ليُضحك به القوم فيكذب ، ويلٌ له ، ويلٌ له " ( الترمذي ، ج 4 ، الحديث رقم 2315 ، ص 557 )
· ارتداء بعض الناس وبخاصة من هم في سن الشباب للملابس الغريبة الوافدة ، لما قد يكون فيها من التشبه بأهلها ، أو لأنها لا تليق بالإنسان المسلم العاقل المُتزن لا سيما في المساجد ، والأسواق ، و المجالس ، والأماكن العامة . ومن هذه الملابس القبعات ، و الأقمصة الملونة ، والملابس الشفافة ، والملابس غير الساترة ، والبنطلونات والسراويل القصيرة ، وغيرها من الملابس المضحكة المزرية التي وفدت إلينا من مجتمعاتٍ غير محافظة على القيم والأخلاق الإسلامية ، والتي قد تكثُر عليها الرموز والشعارات والعبارات المخالفة لتعاليم ديننا الحنيف ، أو المخلة بالآداب ، والمنافية للأذواق السليمة .
· إضاعة الوقت بالجلوس لوقتٍ طويلٍ في المقاهي والاستراحات وما في حكمها لغير حاجةٍ مُلحة . وكلنا نعلم أن المقاهي وما شابهها تُعد – في الغالب - من الأماكن التي يجتمع فيها أراذل الناس ورفاق السوء . وقد ورد عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أنه قال : " آفة المروءة إخوان السوء " . يُضاف إلى ذلك ما في ارتياد هذه الأماكن من هدرٍ للوقت وإضاعته فيما لا فائدة منه ولا نفع فيه ، ولا سيما في هذا الزمان الذي كثُر فيه الفساد والانحراف ؛ وهنا يجدر بنا أن نتذكر ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه إلا كان عليهم تِرَة ( أي حسرة وندامة ) ، وما مشى أحدٌ ممشى لم يذكر الله فيه إلا كان عليه ترة ، وما أوى أحدٌ إلى فراشه ولم يذكر الله فيه إلا كان عليه ترة " ( ابن حبان ، ج 3 ، الحديث رقم 853 ، ص 133 )
· كشف العورات أمام الناس ، وهذا أمرٌ محرَّمٌ ومخالفٌ للمروءة سواءً أكان ذلك الكشف صادراً عن الرجال أم النساء ، ولا سيما في الاحتفالات والأعراس ، وعند ممارسة الألعاب الرياضية في الملاعب والمسابح والصالات المغلقة . وهنا تجدر الإشارة إلى أنه لا يجوز كشف الفخذ ، ولا الصدر ، ولا الظهر ، ولا الأكتاف ونحوها لما في ذلك من المخالفة الصريحة لأمر الله الذي أمر بالستر والعفاف والاحتشام . فعن زُرعة بن عبد الرحمن عن جده جُرهد أن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَ به وقد كشف فخذه فقال : " غطها فإنها عورة " ( الترمذي ، ج 5 ، الحديث رقم 2795 ، ص 110 )
· قص شعر الرأس بأشكالٍ غريبةٍ وغير مألوفة ، وكُلنا يعلم أنه قد انتشرت في هذا الزمان بعض قصات الشعر المضحكة المبكية وخاصة بين الشباب والشابات ، والتي يعلم الله أنها تُشوه الشكل ، وتدل – دلالةً واضحةً - على فساد الذوق ، وحب التقليد ؛ كما تؤكد أن من يفعلها عامداً مُتعمداً ضعيف العقل ممسوخ الهوية ، لأنه مُقلدٌ للآخرين ممن لا دين لهم ولا مروءة ولا حياء .
· كثرة الضحك والقهقهة بصوتٍ عالٍ ولا سيما في الأماكن العامة ؛ فقد جاء عند بعض أهل العلم قوله : " ويُكره مضغ العِلك لأنه دناءة ". ويتبع ذلك عادة مضغ العلك ( اللبان ) أمام الناس ، وفي الأسواق ، وأماكن التجمعات ؛ وهو أمرٌ لا يليق بالرجال على وجه الخصوص ؛ فقد ورد عن بعض السلف قولهم : " يُكره العِلكُ للرجل للتشبه بالنساء ، ما لم يكن للتداوي ، أو كان خالياً ببيته ونحوه لا في حضرة الناس "
· أن يتحدث الإنسان إلى جُلسائه ببعض الأحاديث المخلة بالآداب ، وأن يُخبرهم ( صادقاً أو كاذباً ) ببعض القصص والمغامرات والأحداث الفاضحة بحجة الإمتاع و المؤانسة . وهذا أمرٌ مخالفٌ لما أمر الله به عباده من الستر وعدم نشر الفاحشة بين المسلمين .كما يتبع هذه المخالفة أن يتحدث الإنسان عن ما يقع بينه وبين امرأته من أُمور خاصة ، أو وصف تفاصيل ذلك لما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من أشر الناس عند الله منـزلةً يوم القيامة ، الرجل يُفضي إلى امرأته ، وتُفضي إليه ، ثم ينشر سرها " ( مسلم ، الحديث رقم 3542 ، ص 609) . وما ذلك إلا لما في هذا الأمر من خيانةٍ للأمانة ومخالفةٍ للمروءة وآداب المسلم التي تمنعه من مجرد التعرض لهذا الأمر تصريحاً أو تلميحاً " وأما مجرد ذكر الوقاع فإذا لم يكن لحاجةٍ فذكره مكروه لأنه خلاف المروءة " .
· الرقص والتصفيق والتمايل مع الأنغام المحرمة ، وهز بعض أعضاء الجسم أو تحريكها وغير ذلك من الحركات الساقطة التي يؤديها البعض في الاحتفالات والأعراس ونحو ذلك مما لا يليق بالإنسان المسلم ذكراً كان أو أُنثى . حتى إنّ بعض أهل العلم وصف الرقص والتصفيق والتمايل إذا صدر عن الرجال بأنه : " خِفَّةٌ ورعونةٌ مُشبِهةٌ لرعونة الإناث لا يفعلهما إلا أرعن .
· امتهان الشحاذة و مدُّ اليد للناس من غير حاجةٍ ضروريةٍ تدعو إلى ذلك . وما عُدَّ التسول مما يُخالف المروءة إلا لما في ذلك الفعل من احتمال الكذب ، والخداع ، والتحايل ؛ الأمر الذي يُسقط مروءة الإنسان ويُذهب ماء وجهه في الدنيا ولحمه في الآخرة ؛ فقد روي عن حمزة بن عبد الله عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تزالُ المسألةُ بأحدكم حتى يلقى اللهَ ، وليس في وجْهِهِ مُزْعَةُ لحمٍ " ( مسلم ، الحديث رقم 2396 ، ص 418). وفي هذا المعنى يقول الشاعر :
وما شـيءٌ إذا فـكَّرت فيه بأَذهب للمروءةِ والجمالِ
من الكذب الذي لا خير فيه وأبعد بالبهاءِ من الرجالِ
كما قال بعض أهل العلم : " إن من كان أكثر عمره سائلاً ، أو يَكْثُر ذلك منه ؛ فينبغي أن تُرَدَّ شهادته لأن ذلك دناءةٌ وسقوطُ مروءةٍ و هنا تجدر الإشارة إلى أن كثيراً من الشحاذين و المتسولين الذين اتخذوا سؤال الناس مهنةً لهم ، وممن يتنقلون بين المساجد والجوامع وهم يحملون الأوراق والصكوك والتقارير الطبية ليستشهدوا بها على فقرهم وحاجتهم الزائفة ، وقد يحمل بعضهم أطفالاً صغاراً أو معاقين ليستدروا بهم عطف الناس وشفقتهم ، أكثرهم من الكاذبين والمحتالين الذين يحتاجون إلى تأديبٍ وردعٍ من الجهات المعنية ، فالواجب على الناس عدم الانخداع بهم أو التعاطف معهم ؛ لاسيما أنهم يحدثون كثيراً من التشويش والفوضى في بيوت الله تعالى ، ويتسببون في قطع خشوع الناس ومنعهم من الانشغال بالتسبيح والذكر بعد الصلاة .
وبعد ؛ فهذه بعض آداب المروءة وخوارمها التي تكثُر في مجتمعنا ، والتي اتضح لنا -مما سبق -أن من آدابها ما يوافق الشرع ولا يتعارض مع الأعراف والعادات و التقاليد الحسنة ، وأن من خوارمها ما يُخالف ذلك كله ؛ ولذلك فهو إما حرامٌ بيِّنٌ لا يجوز ولا يُباح ؛ وإما أنه ليس بحرامٍ إلا أنه غير مقبولٍ وغير مستحب . وهذا يعني أن هذه الصور المخالفة للمروءة تحتاج منَّا إلى أن نعيد النظر فيها متى وجدت عندنا ، وفي كل الأفعال والأقوال والتصرفات التي لا يُقرها شرعٌ ولا يقبلها عقل .كما أن علينا أن نجتهد جميعاً في تصحيح أخطائنا ، وأن نُجدد العهد مع الله سبحانه وتعالى على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القول والعمل ، والالتزام بتعاليم الدين ، وتوجيهات سُنَّة رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، وآداب تربيتنا الإسلامية السامية . وما أجمل قول الشاعر :
تأدب غير مُتكِلٍ على حسبٍ ولا نسبِ
فإن مروءة الرجل الشـريف بصالح الأدب
وختاماً ؛ نسأل الله جل في عُلاه أن يوفقنا جميعاً لجميل القول ، وصالح العمل ، وأن يهدينا لما فيه الخير.
المروءة وخوارمها، د.عمر عبد الكافي 30/11/2009 .