ذكرنا فيما مضى أن مؤسسات المجتمع تتكامل في تحمُّل مسؤولية التربية وصناعة الإنسان المطلوب، وهذا يعني أن التربية والتعليم هي مسؤولية جماعية لا يمكن أن تترك إخراجه لوزارة أو لهيئة واحدة، وإن كانت هي الهيئة المختصَّة بالتربية، ولعل المثال التالي يقدم لنا إيضاحًا لأهمية التكامل الذي ذكرناه.
التكامل التربوي ودائرة التلفزيون:
التلفزيون وسيلة أرشد
الله الإنسان لاكتشافها؛ لتتناسب وسائل التبليغ مع العالمية التي دلفت إليها
المجتمعات البشرية، وهو منبر عالمي هدى الله الإنسان إليه رحمةً منه - سبحانه
وتعالى - ولتحقيق التواصل الآمر بالخير والمعروف، والناهي عن المنكر، ونشر الإيمان
بالله - تعالى - على مستوى الإنسانية في قرية الكرة الأرضية.
ولتحقيق هذه المهمة
يحتاج العاملون في التلفزيون أن يحققوا قدرًا كبيرًا من الفاعلية؛ أي: يحصلوا على
أفضل النتائج بأقلِّ التكاليف وأقصر الأزمان، طالما أننا في عصر السرعة والوثبات
الحضارية والمعرفية، وهذا مطلب لن يتحقق إلا إذا تكامل التلفزيون مع غيره من
المؤسسات التربوية والثقافية وغيرها.
وتجسيدًا لهذا المطلب
ينطلق التلفزيون من مبادئ خمسة هي:
المبدأ الأول: من
المقولات المتداولة في أيامنا أننا نعيش في "عصر التلفزيون"، وأن
الأجيال الجديدة من أبنائنا هي أجيال تلفزيونية، والواقع أن الأسر من كافَّة
الطبقات تجتمع يوميًّا صغارًا وكبارًا؛ كي تقضي أربع أو خمس ساعات أمام جهاز
التلفزيون لمشاهدة برامجه وما تسجله شرائط الفيديو، أو يأتي من الخارج عبر الأقمار
الصناعية، وهم في حالة من الاسترخاء والتلقي السلبي الذي لا يناقِش ولا يجادِل.
والمبدأ الثاني: أن
الثقافة السائدة هي بالدرجة الأولى ثقافة تلفزيونية، يليها بقية وسائل الإعلام
والاتصال، فإذا لم تنهل هذه الوسائل من المنابع الأصيلة للثقافة المتمثِّلة في
العالم الجامعي، والباحث الأكاديمي، والفقيه الراسخ، والمجلة المتخصصة، والدوريات
الجادة، فستظل ثقافة تلفزيونية سطحية عابثة لاهية؛ لذلك لا بُدَّ للمؤسسات
المختلفة - ومنها التلفزيون نفسه - أن تقف وقفة حازمة في مواجهة ظاهرة السطحية
واللهو والعبث، ويعمل على ترشيد هذه الثقافة؛ لكي تصبح قوة دافعة إلى الأمام في
إطار خطة ثقافية تربوية متكاملة، هدفها مساعدة الإنسان العربي والمسلم على اكتشاف
هويته وذاته؛ ليعيش عصره بملء طاقاته وقدراته.
لذلك؛ سيكون هذا البحث
حول التكامل التربوي بين المؤسسات بشمولها وجديتها ورسوخها رافدًا كبيرًا للأهداف
التي يعمل التلفزيون من أجلها.
والمبدأ الثالث: هو أن
القدرة التربوية التثقيفية للتلفزيون في وطننا العربي والإسلامي ليست مشروعًا
خاصًّا يملكه المستثمرون، وإنما هي مسؤولية أمة ودولة تستهدف دعم الهوية الثقافية
التربوية العربية والإسلامية، ولذلك تجيء ورقة التكامل لتوفر تكامل التلفزيون مع
المؤسسات الثقافية والتربوية والإنمائية الأخرى، ونأمل أن يكون من نتائجها أن
تتوفر للتلفزيون قنوات التواصل مع كل عالِم ومبدِع، ومؤهَّل ومدرَّب على رسالة
التربية والثقافة، في عالم تشتد فيه المنافسة والصراع على السيطرة على عقول الشعوب
واتجاهاتها وأخلاقها، ومواقفها وأنماط سلوكها.
والمبدأ الرابع: مبدأ
ينطلق من الأهمية الكبيرة التي توليها التربية للأطفال والناشئة الذين سيعبرون
القرن القادم - قرن العالمية وتفاعل الثقافات - ومَن لا يتسلح فيه بالحقيقة والعلم
فسوف يقع ضحية التردد، والإيمان بالصباح بما كفر به في المساء، والكفر في المساء
بما آمن به في الصباح، كما ورد في تشخيص الرسول الكريم - عليه أفضل الصلاة
والتسليم.
من هذا المبدأ نرى أن
على التلفزيون أن يشارك المدارس والجامعة، والمسجد والدائرة الثقافية، وأندية
الفتيات والفتيان - مهمة توجيه النشء الوجهة الصحيحة الراشدة؛ فيخصص في برامجه
"ثقافة مرئية للطفل العربي والمسلم"، ثقافة تنبع من قِيَم الإسلام
والعروبة بدوائرها الراحمة السمحة التي تتسع للإنسان أنَّى كان، ولا تغفل جانب
المعاصرة وتركز على أمور أهمها:
أ- تنمية شخصية الطفل
ومواهبه وقدراته العقلية والبدنية إلى أقصى إمكاناتها.
ب- تنمية احترام حقوق
الإنسان والحريات الأساسية النابعة من التكريم الإلهي للإنسان.
ج- تنمية احترام هوية
الطفل الثقافية، واحترام لغته ودينه وقِيَمه الوطنية والإنسانية، واحترام حضارته
وحسن التعايش مع حضارات الآخرين.
د- إعداد الناشئة من
البنين والبنات ليستشعروا المسؤولية في مجتمع مسؤول، وتنمية روح التسامح والمساواة
والاحترام بين الجنسين.
والمبدأ الخامس: هو أن
إدارات التلفزيون يجب أن تؤمن إلى درجة اليقين أن عدم التكامل والتخطيط مع
المؤسسات العلمية والدينية، والثقافية والاجتماعية، والأسرية والأمنية - يمكن أن
يؤدي إلى عدد من الأخطار والمحاذير؛ فالتلفزيون غير الموجَّه الذي لا يسترشد
بنظرية تربوية أصيلة يقدم عالمًا مزيفًا لا يمتُّ إلى الواقع إلا بأوهن الصلات،
فالبرامج قد تضم ألوانًا من الإثارة والانحراف في السلوك والخروج على المألوف،
والعنف والقسوة، بحيث لا تصلح هذه المشاهد أن تكون صورة للحياة الاجتماعية هنا أو
هناك، مما قد يمدُّ الناس - خاصة الأطفال والشباب - بفهْم مشوَّه لطبيعة الحياة
والعلاقات الاجتماعية، كذلك قد يمدُّ التلفزيون المشاهدين بمخلوطة ثقافية متنافرة
الأفكار، والمعارف السطحية واللهو العابث، الأمر الذي يحيل التلفزيون إلى منبر
ضرار لا منبر تقوى، وقُلْ مثل ذلك عن بقية المؤسسات القائمة.
لذلك كله؛ فإن التكامل
بين المؤسسات التي تحكمها نظرية تربوية تتَّصف بالأصالة والمعاصرة أمر في غاية
الضرورة، ومن أجل ذلك يجب أن يفتح التلفزيون أبوابه لجميع الكفاءات والطاقات؛
لتسهم في البرامج والندوات والنشاطات، ولتشكِّل مجتمِعةً روافدَ نافعة في نهر
الحياة الكريمة التي أرادها الله للإنسان وميَّزه بها.
هذه هي المبادئ التي
ينطلق منها مفهوم الباحث للنظرية التربوية التي تهيِّئ الإنسان المسلم لحمْل
رسالته والقيام بمسؤولياته، والأمل كبير أن يجد المسلمون في هذا البحث وفي ما كتبه
الباحث في كتبه المختلفة ما يرشد إلى إقامة مؤسسات تربوية، تحقق المعاصرة والتجديد،
وتكامل الجهود وبلوغ الأهداف.
سادسًا: الخلاصة:
هذه خطوط عريضة موجزة
في معنى النظرية التربوية ومكوناتها وتطبيقاتها، التي تظهر بشكل واضح أن دخول
القرن القادم يتطلَّب الوعي النظري والتكامُل العمليَّ عند كافَّة المؤسسات
التربوية والتنفيذية، واعتبارها جميعها مؤسسات تربوية؛ لتصبح مؤهَّلة لتلبية
الحاجات ومواجهة التحديات؛ لأن الحياة في القرن القادم سوف تقوم على الأسس
التالية:
1- الحاجة الماسَّة إلى
اعتماد العلم والأساليب العلمية على المستويين: الرسمي والشعبي، على حدٍّ سواء.
2- انتهاء دور العالِم
الفرد، وضرورة بروز مؤسسات المتخصصين من العلماء.
3- عجْز مؤسسة العلماء
المختصين المفردة ما لم تتكامل مع بقية المؤسسات العلمية في ميادين التخصصات
الأخرى.
4- عدم فاعلية المؤسسات العلمية مجتمِعة ما لم تتكامل مع المؤسسات التطبيقية
في مختلف ميادين الحياة، والعكس بالعكس.
5- عدم فاعلية المؤسسات العلمية والمؤسسات التطبيقية مجتمِعة، ما
لم يوجه أنشطتها نظرية تربوية واعية تهيِّئ لجميع هذه المؤسسات أن تتكامل وتعمل في
دائرة تتكامل فيها (علوم غايات الحياة)، التي توفرها العلوم الدينية والإنسانية
والاجتماعية مع (علوم وسائل الحياة)، التي توفرها العلوم التطبيقية والتكنولوجيا.
والمجتمعات التي تعجز
عن بَلْوَرة هذه الأسس الخمسة ووضْعها موضع التطبيق سوف تظلُّ حبيسة القلق
والاضطراب، أمَّا المجتمعات التي تتجاهلها وتظلُّ متخلِّفة عنها، فسوف تخرج من
مسار التاريخ الإنساني وتدفن في مدافنه وخرائب آثاره.
والله - سبحانه -
يتولاَّنا بالتوفيق والرعاية.