تمثل النظرية التربوية النموذج الذي يرغب المجتمع القائم لأطفاله وناشئته أن يكونوا عليه، والمؤسسات التي تعدُّ هذا النشء، والمناهج التي تستعمل في إعدادهم، ومجتمع المستقبل الذي سيعيشون فيه، والنظرية التربوية تشمل كذلك شبكة العلاقات الاجتماعية التي يُرَغّب بها المجتمع لتنظيم سلوك البالغين فيه، والمؤسسات التي يعملون بها؛ بحيث يؤدي هذا التنظيم إلى تأهيلهم وتنسيق جهودهم ليقوموا متعاونين متكاملين بتلبية الحاجات ومواجهة التحديات؛ لذلك يختلف مفهوم النظرية التربوية من مجتمع إلى مجتمع، ومن حضارة إلى حضارة، ومن عصر إلى عصر.
وفي مطلع عصر النهضة
الغربية الحديثة - التي حملت مفاهيمها إلى مختلف أرجاء العالم بتوسعها وانتشارها -
بدا مفهوم النظرية التربوية بالتركيز على إعداد الفرد للاستمتاع بالحياة، واستغلال
البيئة المحيطة والاهتمام بالتربية الجمالية والبدنية والسلوك.
"وفي العصر
الحديث استمدَّت النظرية التربوية محتواها من السعي لرفع مستوى المعيشة، والنظر
إلى التربية وتطبيقاتها - السياسية، والإدارية، والاجتماعية، والثقافية، والعسكرية
- كاستثمار اقتصادي ودعامة من دعائم التطور التكنولوجي والعلمي الصناعي"[1].
"وفي العقد
الأخير تعقد المؤتمرات في الأقطار المتقدمة، وتُعَدُّ الدراسات، وتُجْرَى الأبحاث؛
لإخراج الإنسان الذي يعيش في قرية الكرة الأرضية، وعصر البداوة التكنولوجية، التي
يستعمل أهلها الطائرات بدل الجمال، والفنادق الفاخرة بدل الخيام، ويديرون الشركات
المتنقِّلة عبر القارات، ويخاطبون سكَّان المعمورة عبر المحطات الفضائية، ويتكلمون
مختلف اللغات، ويتفاعلون مع مختلف البيئات والثقافات"[2].
وفي المجتمعات
الإسلامية لم يرَ المربُّون ضرورة بَلْوَرة نظرية تربوية طالما لديهم أصولها في
القرآن الكريم، ولكن استخراج هذه النظرية هو أمرٌ لم يعطوه الجهد اللازم، حتى إذا
حل التقليد محل الاجتهاد تجزأ هذا المفهوم القرآني للنظرية التربوية عند المذاهب،
ولم يعد هناك مفهوم نظرية بالمعنى الشامل الراسخ المحيط، واستمر هذا الفراغ حتى
العصور الحديثة، حيث برزت أهميتها والإحاطة بمحتوياتها وتطبيقاتها؛ لأن الناس -
أفرادًا وجماعات - يتعرَّضون في كل لحظة إلى كميات هائلة من الخبرات والمعلومات
التي يمطرهم بها التلفزيون والراديو والصور المتحركة، والكمبيوتر والإنترنت، ودور
النشر والصحف والمجلات، والخطب والأحاديث والمناقشات، والملصقات والإعلانات، وغير
ذلك.
وأمام هذا التدقيق
المعرفي تجد المجتمعات العربية نفسها أمام موقفَين متناقضَين، لا مناص من الأخذ
بأحدهما؛ فإما أن تقبل ببعض هذه المحتويات، وترفض البعض الآخر بطرق عشوائية غير
محددة الأهداف ولا مدروسة النتائج، وإما أن تتعامل معها طبقًا لأهداف مدروسة تحدد
نوع (المحتوى) الذي تقبله أو ترفضه، ثم تنظم هذا المحتوى في (تطبيقات) عملية
تنفذها خبرات تخصصية، تهيِّئ للإنسان العربي أن يتفاعل مع بيئته المحيطة بحيث يسخِّرها
ولا تسخره، ويسهم في تحقيق الأهداف المبتغاة، ثم تتبع ذلك بـ(التقويم) الذي ييسر
التعرف على نسبة النجاح أو الفشل.
ولا شك أن ما تواجهه المجتمعات العربية
والإسلامية من ضخامة التحدِّيات وتزاحم المشكلات سببه ما في النفوس من مفاهيم
وتصورات، وقِيَم واتجاهات، ومناهج في التفكير؛ ولذلك كانت دراسة نُظُم التربية
والثقافة التي تفرز هذه المحتويات النفسية وتوجِّه تطبيقاتها - أمرًا في غاية
الأهمية؛ لأن في تغييرها تغيير لما في هذه المجتمعات من أحوال أسيفة، وهذا بعض ما
يوجه إليه قوله - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
ولكن التغيير المطلوب لا يكون بالانتقال من
تقليد الغرباء، ولا بالعزلة والتوقُّع السلبي؛ فمند مطلع هذا القرن والمفكرون
والسياسيون والإداريون في العالم العربي والإسلامي ينقسمون إلى فريقين من
المقلدين: مقلدين للقديم الموروث، ومقلدين للجديد المستورد، وكلا الطرفين يشيد بما
يدعو إليه، ويهاجم ويقدح ما ينفر منه، دون محاولة للدرس أو التحليل، يصدق عليهم
قوله - تعالى -: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام: 26]،
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((... وسيأتي على الناس زمان يقلّ علماؤه ويكثر خطباؤه))[3].
إن المشكلة ليست في الأفكار الموروثة
وتطبيقاتها أو الأفكار المستوردة وتطبيقاتها، ولكنها مشكلة الأسلوب الذي نتعامل به
مع الأفكار وتطبيقاتها العملية، فنحن نحقن عقولنا وعقول ناشئتنا بالأفكار، ولا
نهضمها ولا ندربهم على هضمها، وتكون النتيجة هي قتل التفكير والابتكار، والفرق بين
هضم الأفكار وحقنها كالفرق بين الحقن بالطعام وهضمه؛ فلو إن أنسانًا قال لنفسه:
لماذا أتعب نفسي بغلي الحليب وشربه وملء معدتي به؟ دعني أصبَّه مباشرة في شراييني
لينقله الدم إلى الأعضاء مباشرة ويغذيها به - لكانت النتيجة فساد تركيب الدم، وتسمُّم
هذا الإنسان وقتله، أما حين نتناوله لتهضمه معدتنا فإنه يمرُّ في عمليات دقيقة من
التحليل والتركيب والفرز، ثم يوزع ما كان صالحًا على الأعضاء، ويطرد ما هو غير
صالح خارج الجسم.
وكذلك الفرق بين هضم
الأفكار والحقن بها؛ هضم الأفكار يمررها أولاً على عقول الباحثين والعلماء
المختصين؛ لتقوم بتحليلها وإعادة تركيبها وفرزها وتصنيفها بما يلائم حاجات الزمان
والمكان، ثم يحوِّلها إلى تطبيقات عملية، ثم يوزِّعها على مؤسسات المجتمع
التنفيذية بمختلف ميادينها ومسؤولياتها، ثم يتابعها بقياس النتائج الحاصلة
وتقويمها، ثم يستعمل حصيلة التقويم لبدء دورة فكرية جديدة.
أما حقن الأفكار، فهو
يترك للمؤسسات التنفيذية أن تتناول الأفكار رأسًا من مصادرها وجبات جاهزة، ثم يصبُّها
في عقول الأفراد ويشيع تطبيقاتها في شبكة العلاقات؛ لتكون النتيجة إفساد أساليب
التفكير، وتمزق حلقات السلوك، وتشويه الكيانات، وتشتيت الاتجاهات، وعقم الممارسات.
لذلك؛ فإن الحاجة جد
ماسة لتطوير (نظرية تربوية) تتجسد في تطبيقاتها العملية لتستخرج (وسع) الأفراد
وتنظم عمل المؤسسات؛ للتكامل في أعمالها وحمل مسؤولياتها.
أ.د ماجد عرسان الكيلاني