لما كان السلوك الشامل يولد مرتين: ولادة نظرية، وولادة عملية، فإن النظرية التربوية تتكوَّن من قسمين: قسم نظري، وقسم عملي، أما تفاصيل القسم النظري فهي كما يلي:
1- أصول النظرية التربوية:
التربة التي تنبت فيها
أصول النظرية - أية نظرية تربوية - تتكون من عناصر ثلاثة، هي: الحاجات الحاضرة،
والتحديات المستقبلية، والخبرات الماضية.
وتتعدد الأصول
التربوية بتعدُّد مظاهر الحاجات والتحديات والخبرات، فهناك الأصول الإيمانية،
ومحورها: بلورة (الغايات) التي يحيا وينشأ الإنسان المتعلم من أجلها.
والأصول النفسية، ومحورها:
مساعدة المتعلم على اكتشاف ذاته وسنن حياته، وبلورة (هويته)، والسعي لأن يكون ما
بوسعه أن يكون.
والأصول التاريخية،
ومحورها: الوعي بتقسيمات الزمن إلى ماضٍ وحاضر ومستقبل، واكتشاف القوانين والسنن
التي توجِّه هذه الأقسام الثلاثة.
والأصول الاجتماعية،
ومحورها: الوعي بقوانين صحة الأمم ومرضها وموتها.
والأصول العلمية،
ومحورها: القدرة على تسخير الكون واكتشاف قوانينه والانتفاع بخزائنه.
والأصول الاقتصادية،
ومحورها: تفجير طاقات العمل وتنمية مهاراته بالقدر الذي يتطلبه الإنتاج والاستهلاك
في العصر القائم.
والأصول النفسية،
ومحورها: الوعي بالنظام البيئي وتكامل عوالمه، والتعامل معها طبقًا للسنن التي
أبدعها رب هذه العوالم.
ويبقى الباب مفتوحًا
لإضافة أصول جديدة كلما دلفت حِقَب زمنية جديدة، وأفرزت حاجات جديدة وتحديات
جديدة.
2- فلسفة التربية:
فلسفة التربية تعني:
تحديد المكونات الرئيسة لشخصية الإنسان الذي تتطلَّع التربية إلى إخراجه، والمجتمع
الذي تعمل على تنميته في ضوء علاقات كل منهما بالمنشأ والكون والحياة والإنسان
والمصير، ولتجسيد هذه العلاقات في واقع تربوي ملموس تركز فلسفة التربية على أربعة
ميادين رئيسة؛ هي: نظرية الوجود، ونظرية المعرفة، ونظرية القِيَم، وطبيعة الإنسان[1]،
ويفترض في كل نظام تربوي أن تتكامل برامجه ونظمه ومؤسساته لإخراج متعلم يحمل
تصورًا شاملاً مفصلاً عن هذه القضايا الأربع، ثم تكون لديه القدرة على ترجمة هذا
التصور في سلوكه وشبكة علاقاته مع الكون والإنسان والحياة.
وتحتل فلسفة التربية -
أية فلسفة للتربية - مركز البذرة في شجرة العملية التربوية، ومن هذه الفلسفة تنبثق
أهداف التربية العامة وأهدافها الخاصة العملية، ومؤسساتها، ومناهجها، وطرقها
ووسائلها في التعليم والتقويم، ومن هذه الفلسفة تنبثق كذلك أنماط السلوك في واقع
الإنسان المختلفة، وفي جميع النشاطات والممارسات.
فإذا كانت فلسفة
التربية مثلاً ديمقراطية، فإنها تفرز السياسي الديمقراطي، والاقتصادي الديمقراطي،
والعالم الديمقراطي، والمدرِّس الديمقراطي، والزوج الديمقراطي، والزوجة
الديمقراطية... وهكذا، وإذا كانت فلسفة التربية إسلامية، فسوف تفرز السياسي
الإسلامي، والاقتصادي الإسلامي، والعالم الإسلامي، والعسكري الإسلامي، والإداري
الإسلامي، والفنان الإسلامي، والزوج الإسلامي، والزوجة المسلمة... وهكذا.
ومثله في موضوعات
المعرفة، وفروع العلم، ومؤسسات الإدارة؛ حيث تسري فيها كلها اتجاهات فلسفة التربية
الموجهة وتكسبها طابعًا مميزًا، ولذلك يدرس فلسفة التربية كلُّ مَن يجلس على مقعد
الدرس وفي أيِّ تخصص كان، وكان يتم تمكين هذه الفلسفة التربوية واحتلالها مركز
التوجيه من خلال ما يلي:
1- رسم سياسة تعليمية
واضحة.
2- بَلْوَرة قواعد
أخلاقية للعاملين في ميدان التربية بمختلف مواقعهم ومراكزهم.
3- مجلس تربية وتوجيه يضم ممثِّلين عن عناصر القوة في الأمة، وهم:
أ- رجال المعرفة.
ب- رجال التنفيذ
والإدارة.
ج- رجال المال.
د- رجال التربية.
هـ- ممثلون عن الأسرة.
و- ممثلون عن مؤسسات
الإرشاد والتوجيه الإعلامي.
ويوجه نظمَ التربية
الحديثة خمسُ فلسفات رئيسة هي: الفلسفة المثالية، والفلسفة الواقعية، والفلسفة
البراجماتية، والفلسفة الوجودية، والفلسفة الماركسية[2].
ومنذ عام 1952م تعرضت
هذه الفلسفات لحملة كبيرة من النقد؛ حيث ارتفعت الأصوات مطالبة إعادة النظر في
أصول التربية التي بنيت على هذه الفلسفات ومشتقاتها، متهِمة إياها بأنها سبب
الأزمات الاجتماعية والأخلاقية الجارية، وأنها سجنت الإنسان في سجن المادة وثقافة
الإنتاج والاستهلاك والقِيَم المادية[3].
وفي السنوات الأخيرة
من عقد التسعينيات تصاعدت المعارضة للفلسفات التربوية القائمة، وظهر مئات الكتب
والأبحاث التي أصدرتها الجامعات ومراكز البحث التربوي في أمريكا، منادِية بالبحث
عن بديل تربوي، كذلك شاركت الهيئات الشعبية في هذه المعارضة بطريقتها الخاصة؛ حيث
توقف مقدار 35% من الشعب الأمريكي عن إرسال أبنائهم وبناتهم إلى المدارس العامة -
وليس الخاصة - لأنها - حسب رأيهم - مؤسسات تدرِّب الناشئة على الجريمة والمخدرات
وفوضى الجنس، وأنشؤوا بدلها ما يسمى بالتعليم البيتي[4].
وإزاء هذه الحملات
المركَّزة المتتالية اضطرت الهيئات الرسمية في الولايات المتحدة إلى مراجعة
فلسفاتها ونُظُمها التربوية، وشاركت في هذا النقد الموجَّه لها من ذلك البحث، الذي
أصدرته (جمعية الإشراف التربوي وتطوير المناهج) في ولاية فرجينيا عام 1997م، ومما
جاء في هذا البحث ما يلي:
"لما كانت الحياة
الحقيقية تدور حول المعتقدات والمقاصد والمعاني المؤثرة، فإن جواب السؤال القائل:
ما هي مقاصد التربية؟ لم يعد أمرًا مسلَّمًا به، فهل هناك تعليم يتعدَّى تخريج
العمال الذين جُلُّ وظيفتهم دعم الاستقرار الاقتصادي ونموه؟ وماذا نعلم أطفالنا
إذا لم نرد جعلهم مجرد خدم لدنيا الأعمال؟ وكيف يمكننا أن نربط قِيَم الديمقراطية
وأعمال شكسبير وأفلاطون، والشعر والأدب في قائمة تربية تقتصر على إدارة الأعمال؟
وماذا عن الحب والعاطفة والإبداع والفنون؟ ماذا عن مشاعر البهجة والتراحم بين
عوالم الإنسان والحيوان والطبيعة؟ ماذا يحدث لنفوسنا كأفراد وأرواحنا كاملة؟
في قرن ما تم تنظيم
الحياة حول العلوم المادية والإنتاج الصناعي، وأفرزنا الاعتقاد الذي يقول: إن الذي
يستحق التقدير يقتصر على ما نلمسه ونحلله، وننتزعه ونثبته، وندفع ثمنه لله، فإلى
أيِّ مدًى يصدق هذا الاعتقاد؟ إن الاعتقاد الذي يتركَّز حول الصناعة جعل كل ما هو
غير محسوس ولا مادي قليل القيمة ويستحق الإهمال، فلماذا نقتصر في تعليم الناس على
ما يمكن التحكم والتنبؤ به، في الوقت الذي يعيشون حياة مليئة بالغيب والمعنويات
والاحتمالات؟
وإذا كان العلم المادي
يعلمنا أن الكائن الذي يستحق التقدير هو الآلات وما تفرع عنها مما يحقق مزيدًا من
المتع الحسية، فبماذا إذًا نجيب أبناءنا وناشئتنا حين يختارون تناول المخدرات التي
تجعلهم يحسون بنشوة أكبر، ويتخيلون أنهم أجمل وأقوي؟"[5].
وكانت نتيجة هذا النقد
المستمر للفلسفات التربوية أن ظهر اليوم فلسفتان تربويتان: الأولى هي (الفلسفة
الشمولية)HOLISTIC EDUCATION والثانية هي (فلسفة التربية الكونية) (GLOBAL EDUCATION) .
وترفض الأولى - أي:
الفلسفة الشمولية - التخصصات المبتورة، والتي قادت إلى القطيعة بين علوم الدين
والإنسانيات والاجتماعيات - أي: علوم غايات الحياة - من ناحية وبين العلوم
الطبيعية - أي: علوم وسائل الحياة - من ناحية أخرى؛ لأن الفصل بين القسمين أفرز فريقين
من الناس: أناس يدعون إلى غايات الحياة دون أن يملكوا وسائل تحقيقيها، وأناس
يملكون وسائل الحياة ويسيئون استعمالها[6].
أما الثانية - أي:
فلسفه التربية الكونية - GLOBAL
EDUCATION فقد تطورت خلال العقود
الثلاثة الأخيرة، وكان من أسبق المنادين بها المربي الأمريكي (جيمس بيكر) الذي بدأ
كتاباته ببحث مشترك مع زميل له هو لي أندرسون بعنوان "ركاب على الأرض سواء"[7]،
ثم أتبعه بكتيب عنوانه "تربيه لمجتمع عالمي"[8]،
ثم بدأت المؤتمرات الخاصة بـ(التربية الدولية) أو العالمية[9]،
التي قادتها - وما زالت تقودها - منظمة اليونسكو.
ثم كانت الخطوة
الثانية حين أخذ بعض الاقتصاديين فكرة العالمية، من ذلك ما نبه إليه بارنيه وموللر[10]،
وكذلك ظهرت الدعوة إلى تطبيقها في ميدان الثقافة[11]،
ثم بعد ذلك ظهر بها الرئيس الأمريكي جورج بوش في ميدان السياسة وأخذت الدوائر
السياسية تفصل في تطبيقاتها[12]،
ثم برزت المقاومة لتطبيقاتها السياسية والاقتصادية؛ مثل الحملة التي تقودها
الاتحادات العمالية في أمريكا، وتتساءل: أهي قرية الكرة الأرضية أم إستراتيجية نهب
الكرة الأرضية وتستنفر لمقاومة هذا النهب عمال العالم جميعهم؟[13]
والواقع أن فلسفة
التربية الكونية تتصف بصفتين: الأولى: أنها تمتلك الإطار الواقعي الذي لا مجال
لتجاهله وإنكاره، والثانية: أنها ما زالت تعاني من الافتقار إلى المحتوى الواضح
الذي يمنع تفسيرها تفسيرات شتَّى، واستغلالها للأغراض المتباينة.
فالعالمية كإطارٍ
حقيقة واقعة أفرزها التطور الهائل في وسائل الاتصال والمواصلات، التي أحالت الكرة
الأرضية إلى قرية يتنقل الناس في حاراتها بساعات في أجسادهم، وثوانٍ أو دقائق في
أصواتهم وصورهم.
لكن المشكلة في
(المحتوى) الثقافي والاجتماعي لهذه العالمية؛ حيث تحاول القوى الكبرى - خاصة
أوروبا وأمريكا - عولمة الكرة الأرضية بثقافتها وممارساتها، ومهما كانت المشكلة
القائمة، فإن ثقافات العالم التي وجدت نفسها في إطار العالمية الكونية سوف يستمر
تفاعلها واضطرابها إلى أن يفرز هذا التفاعل ثقافة عالمية تتغلب فيها الأفكار
والتطبيقات النافعة للإنسانية كلها دون اعتبار للقوى الداعمة لهذه الثقافة أو تلك؛
لأن هذه الغلبة سنة حياتية وقانون كوني؛ قال - تعالى -: {فَأَمَّا الزَّبَدُ
فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}
[الرعد: 17][14].
لذلك؛ لا داعي للوقوف
من العولمة موقف الرفض السلبي؛ وإنما المطلوب - عربيًّا وإسلاميًّا - امتشاق أسلحة
الفكر والتفكير الحر، وبَلْوَرة نظرية (تربوية - ثقافية) ثم النزول إلى ساحة
المعركة الثقافية العالمية بكلِّ وسائلها وفي جميع ميادينها، مطمئنين إلى وعد الله
في أن الثقافة التي تمكث في الأرض هي التي تنفع الناس، أما الزبد - الضجيج
الإعلامي، والتجريح العقدي، وتُهَم الأصولية والإرهاب - فسوف يذهب كله جفاء، بعد
أن يفتح الله بصائر الناس وعقولهم على محتويات الثقافة الإسلامية العالمية.
3- أهداف التربية:
الأهداف هي العنصر
الثاني من عناصر النظرية التربوية، وهي تتولد بشكل مباشر من الفلسفة التربوية،
وتقدم تفصيلات أدق وأكثر واقعية لما يرِد في هذه الفلسفة من أفكار وتصورات، وفي
العادة تقسم الأهداف من حيث مكوناتها إلى: معلومات، ومهارات (عقلية وعملية)،
واتجاهات، وعادات، وقِيَم، وشبكة علاقات اجتماعية.
أما من حيث مستوياتها،
فتنقسم الأهداف إلى قسمين رئيسين: الأهداف الأغراض أو المقاصد العليا التي تعمل
التربية لتحقيقها والأهداف الوسائل؛ أي: التي تشتمل على الوسائل والأدوات الفعالة
لتحقيق الأهداف الأغراض، ولذلك يسميها البعض (المعادلات العلمية)؛ أي: الأعمال
المعادلة للأفكار[15].
[1] - للوقوف على تفاصل هذه الموضوعات الأربعة راجع
كتاب "فلسفة التربية الإسلامية"؛ للدكتور ماجد عرسان الكيلاني، ط 2009.
[2] - William G. Samuelson & Fred A. Markowitz، An
Introdution In philosophy Of Education ( New York،
PHILOSOPHICAL Li brary Inc. 1987) pp. 11-13.
[4] Renate Nummela Caine &Geoffrey
Caine، Education On The Edge Of Possibility (Alexandria،
Virginia :Association For Supervision And Curriculm Developent، 1997 )
p. 16.
[5] يجب أن لا يقعدنا هذا النقد للعلم وتطبيقاته عن
البحث العلمي وتطبيقاته؛ لأنه إذا كان الغرب مصابًا بالإفراط والإسراف في تقديس
العلم وإهمال القِيَم الدينية، فنحن مصابين بالتفريط وإهمال العلم، ولذلك فالمطلوب
هو "فلسفة تربوية" تعالج الانشقاق القائم بين الدين والعلم وتحقق
التكامل بين الاثنين.
[6]-
Douglas Sloan، Toward The Recovery Of Wholeness : Kinowledge،
Education And Human Values ( New York : Columbia University Teachers College
Press 1984.
Rondald
Robertson، Globlization : Social Theory & Global Gulture. Sage Pubns، 1992.
[15] - للوقوف على تفاصل النوعين من الأهداف؛ راجع
كتاب "أهداف التربية الإسلامية"، للدكتور ماجد عرسان الكيلاني، ص 25-31.