مدخل للهندسة المالية الإسلامية
مقدمة :
تحتاج المؤسسات المالية الإسلامية دوما إلى الاحتفاظ بتشكيلة متنوعة من
الأدوات والمنتجات المالية تمكنها من إدارة سيولتها بصورة مربحة ، بالإضافة إلى
توفيرها للمرونة المناسبة للاستجابة لمتغيرات البيئة الاقتصادية . وقد بينت
الممارسة المصرفية التقليدية أن الاعتماد علي منتج وحيد ( مثل الفرق بين الفائدة
المدينة والدائنة ) يعتبر غير كافي للتأقلم مع تطلعات العملاء المتنامية ، حيث
ظلت المؤسسات المالية ولفترة طويلة حبيسة أدوات محدودة تستلزم معها بالضرورة أن
تتطور لملائمة المستجدات .
ومن هنا تبرز أهمية الهندسة المالية كأداة مناسبة لإيجاد حلول مبتكرة
وأدوات مالية جديدة تجمع بين موجهات الشرع الحنيف واعتبارات الكفاءة الاقتصادية
. وفي هذه الفترة بالذات والتي شهد فيها العالم تغيرات جذرية هائلة تمثلت في
تغير أسلوب إدارة الموارد الاقتصادية إلى النمط الاقتصادي الحر ، إلى جانب ترابط
أسواق التمويل الدولية بفعل ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات ، فأن ذلك يفرض
ضغوطا تنافسية حادة غير تكون غير متكافئة بالنسبة للمؤسسات المالية الإسلامية ،
وبالذات في أسواق التمويل والخدمات المصرفية والمالية . ويستدعي ذلك بالضرورة
تطوير منتجات مالية إسلامية مستحدثة تضمن للمؤسسات قدرا من المرونة ونصيبا سوقيا
وافرا يساعدها علي الاستمرار بفعالية .
أهداف المقال :
هذا المقال عبارة عن محاولة لتوضيح معالم الهندسة المالية دون الدخول في
تفصيلات فقهية متعمقة ، مع التنويه بوجود الكثير من الاختلافات حول ما سيطرح في
هذا المقال من منتجات فقط الهدف استثارة الأفكار في هذا الجانب لتوضيح معالم وفرص
الهندسة المالية الإسلامية .
مفهوم الهندسة المالية الإسلامية Islamic Financial Engineering
يقصد بالهندسة المالية مجموعة الأنشطة التي تتضمن عمليات التصميم
والتطوير والتنفيذ لكل من الأدوات والعمليات المالية المبتكرة ، بالإضافة إلى
صياغة حلول إبداعية لمشاكل التمويل وكل ذلك في إطار موجهات الشرع الحنيف .
وتنشأ الحاجة للهندسة المالية إما استجابة لفرص استثمارية وفقا لتطلعات
المستثمرين والمؤسسات معا ، و/أو للتعامل مع قيود المنافسة الدولية ، و/أو درء
للمخاطر واللايقين المحيط بالأنشطة الاستثمارية ، وهي في ذلك تعتبر من أدوات
التحوط المالي Financial Hedging . وتتحدد مقاصد الهندسة المالية
وفقا للحالة التي تواجه المؤسسة المعينة .
ويمكن توضيح الأساس الإسلامي لمفهوم الهندسة المالية في الإسلام من خلال
حديث النبي (ص) حيث قال ( من سن في الإسلام سنة حسنة فله اجرها واجر من عمل بها
إلى يوم القيامة ، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن سن في الإسلام سمنة سيئة
فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ، لا يتقص من أوزارهم شيئا ) .
ويستدل من هذه الحديث الدعوة للابتكار وإيجاد الحلول للمعضلات المختلفة
المالية وغير المالية طالما كانت في مصالح العباد . أيضا الدعوة للاجتهاد وضرورة
مواصلته تعتبر من الموجهات الإسلامية القيمة التي تدعو إلى التجديد باستمرار
ضمانا لحسن الأداء ، وبالتالي المنافسة بإيجابية في سوق الخدمات المالية وأيضا
في غيره من المسائل الحياتية للمجتمع المسلم .
سوق النقد وأهميته للمؤسسات المالية :
سوق النقد اصطلاح يشير إلى السوق الذي يتم التعامل فيه علي الأوراق
المالية قصيرة الأجل ( بأجل استحقاق أقل من سنة ) ، وهي تمثل أدوات مديونية
بالأساس . وفي إطار سوق النقد التقليدي فأنه يتم فيه التداول في الأدوات
المستندة علي الفائدة . وتتعدد أنواعها ( سندات الشركات ، سندات الحكومات ،
شهادات الإيداع ، الكمبيالات المصرفية ، الأوراق التجارية ، وغيرها من الأدوات .
وتتمثل أهمية سوق النقد للمؤسسات المالية في انه يعتبر أحد المعابر
الأساسية للحصول علي التمويل قصير الأجل لسد احتياجات المؤسسات المالية من
السيولة ، بجانب أن السوق يتميز بالسيولة العالية للأدوات المالية المتداولة فيه
وذلك لاعتبارات قصر آجال الأوراق المتداولة ، إضافة إلى زيادة عدد المتعاملين
فيه من الأفراد والمؤسسات وبالتالي انخفاض المخاطر السوقية لهذه الأدوات . هذه
المزايا ، وغيرها تمكن المؤسسات من الاحتفاظ بتوليفة مناسبة من الموجودات
تساعدها علي تقليل مخاطر عدم التماثل Mismatching بين آجال الموارد والاستخدامات
بالنسبة للمؤسسات . بالإضافة إلى أن وجود سوق النقد يساعد المؤسسات في الموازنة
باستمرار بين اعتبارات الربحية والسيولة للمؤسسات وبصورة تحقق أهدافها .
وفيما يتعلق بمدي استفادة المؤسسات المالية الإسلامية من المزايا التي
يتيحها سوق النقد فأنه يجب أولا التأكيد علي أن الفلسفة التي تقوم عليها الأدوات
المتداولة في سوق النقد تمثل قيدا علي المؤسسات المالية الإسلامية ، حيث أن كل
المعاملات المالية المستندة علي الفائدة محرمة شرعا. وبالتالي لا بد من تطوير
أدوات مالية إسلامية قصيرة الأجل لا تتضمن علاقة الدائنية والمديونية ، وفي نفس
الوقت تراعي اعتبارات إدارة السيولة والموجودات في المؤسسات المالية الإسلامية .
ولكل هذه الأسباب وغيرها ، فقد طور الفقهاء الماليين بالمؤسسات الإسلامية فكرة
الصكوك Sukuk كبدائل عملية بديلا للسندات القائمة علي الفائدة .
والصكوك عبارة عن أدوات ملكية ولكن قصيرة الأجل صممت لتلبية احتياجات المتعاملين
فيها من الجمهور والمؤسسات . وقد عرف قانون صكوك التمويل لسنة 1995 صكوك
المضاربة " بأنها الوثيقة محددة القيمة التي تصدر بأسماء مالكيها مقابل
الأموال التي قدموها بقصد تنفيذ مشروع استثماري ، يكون قابلا للتداول وفقا
لاحكام هذا القانون "
ومن هذا التعريف يتضح الآتي :
1. الصك أداة ملكية محددة لجمع الأموال من المستثمرين ، ويمثل ملكية
صاحبه الموثقة والشائعة في موجودات المشروع .
2. تأسيسا علي أن الصك أداة ملكية لذلك فان لاصحابه الحق في الأرباح ( أن
وجدت ) التي يحققها المشروع ، ويستلزم ذلك ضرورة فصل الذمة المالية للمشروع عن
الذمة المالية للجهة المنشئة له .
3. قابلية الصك للتداول في البورصة ، وهذه تمثل ميزة مفيدة جدا للمؤسسات
المالية تساعدها في إدارة سيولتها عبر أدوات سوق النقد .
أنواع الأدوات المالية الإسلامية التي من الممكن تداولها في سوق النقد :
تتعدد المجالات التي من الممكن أن تكون محلا جيدا لاستصدار الصكوك ،
ويمكن توضيح هذه المجالات فيما يلي :
أولا : صكوك الصناديق الاستثمارية :
يعرف الصندوق الاستثماري بأنه تجميع للأموال عبر الاكتتاب في صكوكه بغرض
استثمارها في مجال استثماري معرف بدقة في نشرة الإصدار . وتتعدد مجالات
استخدامها حيث يمكن أن تشمل كافة فروع الاقتصاد ، وبالطبع منها المجالات المالية
. تصدر الصناديق بآجال وأحجام معينة ( الصناديق المغلقة ) ، أو بآجال وأحجام غير
محددة
(الصناديق المفتوحة) . تكيف شرعيا علي أساس صيغة المضاربة المقيدة . وهذه
الصناديق تمثل الصيغة الأم لكل أنواع الصكوك الأخرى التي يتم تداولها في سوق
النقد الإسلامي .
ثانياً : صكوك الإجارة :
الإجارة عبارة عن عقد بموجبه يقوم المؤجر المالك للعين المعينة بإيجارها
لطرف(أطراف) آخر مقابل مصروفات ايجارية محددة يتم الاتفاق عليها في عقد الإجارة
. وبالتالي فان محل العلاقة ليست دائنيه ومديونية بين المؤجر والمستأجر ، وانما
هي علاقة شراء وبيع لمنافع الأصل محل الإجارة .
وتأسيسا علي ذلك ، فان صكوك الإجارة عبارة عن أوراق مالية متساوية القيمة
تصدر ممثلة لقيمة العين المؤجرة تتيح لحاملها فرص الحصول علي دخل الإيجار بمقدار
المساهمة التي دفعا حامل الصك قياسا علي نظرائه الآخرين . تعتبر صكوك الإجارة
اقل خطورة عند مقارنتها ببقية أدوات الملكية الأخرى كالأسهم مثلا ، وذلك لانه
يمكن التنبؤ بدقة بعوائد الورقة المالية محل الإجارة وذلك لسهولة معرفة إيرادات
ومصروفات العين المؤجرة .
وعلي هذا تتعدد أنواع صكوك الإجارة بحسب العين المؤجرة فيمكن أن تكون
مثلا في مجال صناعة الطائرات ، العقارات السكنية ، المصانع ، أنواع المنقولات
المختلفة ، وغيرها .
ثالثاً : صكوك المقارضة (المضاربة) :
صيغة المضاربة أو المقارضة تعني اتفاقية بين طرفين بموجبها يقدم أحد
الأطراف راس المال ، ويسمي رب المال بينما يقدمك الآخر العمل علي أن يتم تقسيم
الأرباح الناتجة عن هذا المشروع وفقا لنسب يتراضي عليها الطرفان ابتداء وفي
مجلسي العقد . وهي في ذلك تختلف عن الربا في كون أن العائد غير محدد سلفا كنسبة
من راس المال ، وانما نسبة من الأرباح وبالتالي فهي متغيرة وقد لا تتحقق .
وصكوك المضاربة عبارة عن تقسيم راس المال إلى حصص متساوية فبدلا من
تقديمه بواسطة طرف واحد يتعدد مقدموه .
خصائص صكوك المضاربة :
1. تعتبر أداة مناسبة لاستدرار المال قائمة علي تقسيم راس مال المضاربة
إلى حصص متساوية تسجل بأسماء مالكيها لتمويل مشروع استثماري معرف بوضوح في نشرة
الإصدار .
2. تمثل صكوك المقارضة حصصا شائعة في راس مال المضاربة تتيح لحاملها فرصة
الحصول علي أرباح المشروع ( إن وجدت ) وبصورة غير محددة ابتداء ، وبحسب مساهمات
حملة الصكوك المختلفة .
3. قابلة للتداول طالما هي تمثل محلا لاصل معروف يعمل في نشاط معلوم غير
مناف للشرع ، وتطبق عند التداول الأحكام التالية :
أ. إذا كان مال المضاربة المتجمع بعد الاكتتاب ما يزال
نقودا فان تداول صكوك المضاربة يعتبر مبادلة نقد بنقد وتطبق عليه أحكام الصرف .
ب. إذا اصبح مال المضاربة ديونا تطبق علي تداول الصكوك
أحكام التعامل بالديون .
جـ. إذا صار مال المضاربة موجودات مختلطة من النقود
والمنافع فأنه يجوز تداول صكوك المضاربة وفقا للسعر المتراضي عليه .
رابعاً : صكوك المشاركة :
صكوك المشاركة تعتمد بصورة أساسية علي عقد المشاركة الجائز شرعاً ، وهي
مشابهة كثيرا لصكوك المقارضة أو المضاربة السابق شرحها ، ولكن الاختلاف الأساسي
يتمثل في ان صكوك المضاربة أن المال كله من طرف ( أو مجموعة أطراف ) بينما في
صكوك المشاركة نجد أن الجهة الوسيطة ( التي تصدر الصكوك للمستثمرين ) تعتبر
شريكا لمجموعة المستثمرين حملة الصكوك في وعاء الشراكة وبصورة مشابهة لما هو
عليه الحال في شركة المساهمة العامة . والمثال الواضح لها شهادات المشاركة
الحكومية ( شهامة ) والمتمثلة في مشاركة الجمهور للحكومة في مؤسساتها الرابحة
عبر حملهم لشهادات شهامة . وأيضا شهادات مشاركة البنك المركزي ( شمم ) والتي
تعتبر أحد أدوات إدارة السيولة عبر سياسات السوق المفتوحة ، ومستندة علي ملكية
الدولة الجزئية أو الكلية في بعض المؤسسات المصرفية الرابحة .
خامساً: صكوك المرابحة :
المرابحة كصيغة إسلامية تعني بيع سلعة معلومة بسعر يغطي التكاليف زائد
هامش ربح يتفق عليه بين البائع ( البنك مثلا ) والمشتري . إن إمكانية استصدار
صكوك مرابحة فقط ممكنا في حالة السوق الأولي وبالذات في حالة كبر قيمة الأصل أو
المشروع محل المرابحة ( طائرة مثلا أو مشروع تنموي كبير ) . بينما تداولها في
السوق الثانوي يعتبر مخالفا للشريعة لان بيع المرابحة قد يكون مؤجلا ، وبالتالي
فانه يعتبر دينا ، وبيع الدين لا يجوزه الفقهاء . ولكن توجد بعض الآراء الفقهية
التي تجوز تداول صكوك المرابحة ولكن ضمن وعاء غالبيته من الأصول الأخرى ،
كتعاقدات الإجارة أو المشاركة أو المقارضة مثلاً .
سادساً : عمليات التصكيك للأصول ( التوريق ) :
تمثل عمليات التوريق للأصول المختلفة التي تتمتع بها المؤسسات المالية
الإسلامية أحد الأدوات المالية الهامة قصيرة الأجل والتي يمكن الاستفادة منها
علي مستوي إدارة المطلوبات والموجودات بصورة مثلي . ويقصد بالتصكيك هنا عملية
تحويل جزء أو مجموعة من الأصول - غير السائلة والمدرة لدخل يمكن التنبؤ به -
التي تمتلكها المؤسسة إلى أوراق مالية قائمة علي الشراكة في منافع هذه الأصول
خلال فترة معينة . وعبر التوريق يمكن للمؤسسات المالية ولوج سوق النقد بصورة
للاستفادة منه في توفير السيولة إلى جانب إدارة المخاطر بصورة التي تمكنها من
تحقيق أهدافها بدقة .
كما توجد أنواع أخرى من الصكوك مثل صكوك الاستصناع ، وصكوك السلم ، كما
يمكن أن تعتبر الاشتقاقات من صيغ التمويل القائمة كالمرابحة والمشاركة والمضاربة
وغيرها مجالات رحبة من فنون الهندسة المالية الإسلامية تلائم مستجدات البيئة
الاستثمارية المتغيرة باستمرار.
الخلاصة :
من العرض السابق للأدوات المحتمل استيعابها بواسطة أسواق النقد الإسلامية
، يتضح أن المؤسسات المالية لها فرصة الاستفادة من المزايا الهائلة التي يوفرها
سوق النقد . والتجربة الإسلامية العملية لهذه الصكوك قد أثبتت نجاحا هائلا في
كثير من البلدان الإسلامية كالسودان وإيران وباكستان وماليزيا وغيرها من البلدان
. والجدير بالذكر أن هندسة هذه الأدوات تختلف من مؤسسة إلى أخرى ومن مجال تطبيق
إلى آخر ، وبسبب المستجدات المختلفة والمتغيرة فان الفقهاء الماليين ورجالات
الهندسة المالية الإسلامية في تحد مستمر لمواكبة المستجدات وارضاء لتطلعات
المستثمرين الماليين ، وبالطبع دون الإخلال بالموجهات الشرعية .
فتح الرحمن علي محمد صالح إدارة التطوير وتنمية الأعمال بنك الاستثمار المالي
المصادر :
1. د. محمد صبح ، الابتكارات المالية ، ط 1 ، القاهرة ،
1998 .
2. د. عبد النافع الزرري ، د. غازي فرح ، الأسواق المالية
، دار وائل للنشر ، عمان الأردن ، ط 1 ، 2001 .
3. جمهورية السودان ، قانون صكوك التمويل لسنة 1995 .
4. د. محمد السويلم ، صناعة الهندسة المالية : نظرات في
المنهج الإسلامي ، شركة الراجحي المصرفية ، 2000 .
5. Mohammed Elbashir. The Islamic Bond Market :
Possibilities & , Challenges ,
International Journal of Islamic financial services
|
|