بسم الله الرحمن الرحيم (يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } العلم درجات: أولها الصمت، والثانية الاستماع، والثالثة الحفظ، والرابعة العمل، والخامسة النشر ***مروان طاهات*** يرحب بكم ويكيبيديا الموسوعة المروانية MANT

الثلاثاء، 2 يوليو 2013

بين يدي رمضان


 ما أحوج الانسان الى الزاد ، والتأهب ليوم المعاد ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب  سليم ، يوم لا تجزي نفس عن نفس شيئا ، والأمر يومئذ لله ..
     في  حياتنا اليومية ، لاينسى أحدنا نصيبه من زاد الدنيا ..  فالكل مقبل على  ما يملأ  بطنه من شهي المطعم ، وما يغطي بدنه من جميل الملبس ، وما يزين به بيته من فاخر الأثاث ، وما يقتنيه من جديد السيارات ومختلف الأدوات والمبتكرات والمخترعات  ، ويتنافس الجميع في ذلك تنافسا كبيرا ..

     فهلا فكرنا لحظة من اللحظات ، ونحن غرقى  هذا الكم الهائل من الملهيات ، أننا تاركوها جميعا في لحظة من ليل أو نهار ، وسائرون على درب طويل صعب كئود ، وراحلون الى  الى ديار ليست كهذه الديار ، إلى جنة أوإلى نار ؟

     إنه لابد من التزود ، ولا مناص من التزود ، ولا غنى عن التزود ليوم " تشخص فيه الأبصار ولزلزلة الساعة [ يوم ترونها ، تذهل كل مرضعة عما أرضعت ، و تضع كل ذات حملها ، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ، ولكن عذاب الله شديد ]

     فالزاد الزاد ليوم التناد .. { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ، واتقون يا أولي الألباب }
    روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه سأل سيدنا أبا ذر، فقال : { يا أبا ذر .. لو أردت سفرا ، أعددت له عدة ؟ } قال : نعم .. قال : { فكيف بسفر طريق القيامة ، ألا أنبئك  بما ينفعك  ذلك اليوم ؟ } قال : نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله . قال :
·        صم يوما شديد الحر ليوم النشور
·        وصل ركعتين في ظلمة الليل لوحشة القبور
·        وحج حجة لعظائم الأمور
·        وتصدق بصدقة على مسكين
·        أو كلمة حق تقولها
·        أو كلمة شر تسكت عنها

     إنها دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم الينا جميعا ، لنفيق من غفلتنا ، ولنتأهب  ولنتزود لرحلة لا نعرف أوان بدئها ، أومكان انطلاقها ، حيث يصدق فيها قول الله تعالى  [ وما تدري نفس بأي أرض تموت }

     إنها دعوة للتزود :السريع  غير المؤجل  ، والدائم  غير المنقطع ، والكثير غير القليل ، وما أكثر الزاد على طريق القيامة ..
·        فإماطتك الأذي عن الطريق زاد
·        وابتسامتك في وجه أخيك زاد
·        ومشيك في حاجة أخيك زاد
·        والانفاق من مالك على الفقراء زاد
·        والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر زاد
·        ودعوة الناس الى الاسلام زاد
·        وقراءة القرآن  ، والاقبال على العلم زاد
·        والتفكر في خلق السموات والرض زاد
·        وإصلاح ذات البين زاد
·        وطاعة الوالدين وبرهما زاد
·        وكلمة الحق تقولها أو تكتبها زاد
·        والجهاد بالنفس والمال زاد
·        وترك المعاصي والاقبال على الطاعات زاد

     إنه لاحصر ولا عد لما يمكن أن نتزود به  على دروب  الجنان  ، { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ، ولو جئنا بمثله عددا } { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها

     نسأل الله تعالى الهدى والسداد ، والاستقامة والرشاد ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الأخيار وصحبه الأبرار ، وسلم تسليما كثيرا ..
[2]  رمضان ومحطات الهداية الربانية
قد لا أكون مبالغاً إذا قلت أن رمضان مشكاة من الخير يصعب إحصاؤها. وقد يستحيل إدراك دروسها ومعانيها وعبرها. وهذا ما يجعل عطاؤها المتجدد المتوالد دليلاً صارخاً على إعجاز هذا الدين جملة وتفصيلاً.

ومن هنا كان اختياري لرمضان كأبرز محطة للتزود بأسباب الهداية، مع عدم الإقلال من أهمية الأسباب الأخرى، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: "إن لله معارج على قدر أنفاس الخلائق، ألا فتعرضوا لها".
رمضان شهر الصوم:

إن مما اختص الله به شهر رمضان أن جعله شهر الصيام، الصيام عن كل ما يشد الإنسان إلى أرض، ويرقى به إلى الملأ الأعلى.   قال تعالى:    { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون }َ (183 ) (البقرة)

*  صيام (حسّي) يروض به المؤمن شهوات البطن والفرج، وسائر أعضاء البدن من سمع وبصر وشمّ وحسّ، لتحقيق عبودية المخلوق للخالق في كل جوانب خَقْلقِه، وتفصيلات صُنعه.

* وصيام (نفسيّ) يرتقي من خلاله المسلم في مدارج الساكلين، ومصاعد الصالحين، فتخبوا الشهوات، وتضعف النزوات، فيصحوا من غفلته، ويستدرك ما فات، ويستشرف ما هو آت، قبل أن لا ينفع الندم،  [ يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ] (89) (الشعراء)

* وفي ضوء كل ذلك نفهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: "أديمي يا عائشة قرع أبواب الجنة. قالت: بماذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: بالجوع".

* ونفهم أبعاد قوله صلى الله عليه وسلم: "لو علمت أمتي ما في رمضان من خير لتمنّت أن تكون السنة كلها رمضان".

* ونفهم الأبعاد الصحية في قوله عليه الصلاة والسلام: "صوموا تصحوا" [عن أبي هريرة – ابن السني].

* وندرك الأبعاد الوقائية في قوله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج. ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء – أي وقاية". [رواه البخاري ومسلم]. وكذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فضيقوا مجاريه بالجوع" [متفق عليه].

ما أحوج الانسان الى الزاد ، والتأهب ليوم المعاد ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب  سليم ، يوم لا تجزي نفس عن نفس شيئا ، والأمر يومئذ لله ..
[3] رمضان شهر التقوى

ومن فضائل رمضان أنه يعين على البر والتقوى، والتحلي بهما، مصداقاً لقوله تعالى: [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ](183)  (البقرة).

فالتقوى ثمرة مجاهدة النفس وتزكيتها، وحالة من حالات الامتثال لأمر الله تعالى وطاعته، واجتناب نواهيه ومساخطه.

ودرجة التقوى لا يبلغها إلا من غالب هواه فغلبه، وصارع شيطانه فصرعه، مصداقاً لقوله e [ لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به، وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وحتى يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار].
* وفضيلة التقوى لا تدانيها فضيلة من تحقيق مخافة الله، وتحصيل مراقبته، وبلوغ منزلة السداد في الرأي والرشاد في السلوك، والاستقامة في العمل. وصدق الشاعر حيث يقول:
إذا لم يكن من الله عون الفتى       فأول ما يقضي عليه اجتهاده
* فالمتقون هم المعنيوم بالخروج من كل ضيق، والخلاص من كل عسر، مصداقاً لقوله تعالى:[ ..وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ..]  (الطلاق).

* والمتقون هم المعنيوم بصلاح الحال وراحة البال ويسر الأعمال، مصداقاً لقوله تعالى:  [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً(71) ]   ( الأحزاب).

* والمتقون هم المزودون بأسباب السعادة في الدنيا والآخرة والمعنيون بقوله تعالى:  [ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ] 197  البقرة

* والمتقون هم الفائزون بنعيم الآخرة، وهم المعنيون بعشرات الآيات القرآنية التي تصف حالهم ومقامهم الكريم يوم القيامة على مثل قوله تعالى:]..وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ]  35 الزخرف، وقوله: ]إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ]34 القلم ، وقوله: [ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ]  31  ق.

فإذا كان الصوم مدرسة للتقوى، والتقوى طريقاً إلى الآخرة فقد أصبح رمضان (قاربنا) إلى جنات الخلود و(مركبنا) إلى ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر..
فيا داعي الخير أقبل، ويا داعي الشر أقصر...
[4] رمضان شهر المغفرة

ومن عطاءات رمضان وأعطياته ومعطياته أنه شهر المغفبرة.. فإقبال المسلم على الله في هذا الشهر، ومجانبته لأهوائه، ومجاهدته لنفسه، وما يساعد على ذلك من تصفيد للشياطين، وإضعاف لعوامل الشر، وتقوية لعوامل الخير، يجعل باب التوبة مفتوحاً على مصراعيه، لايحتاج الصائم فيها إلى كبير عناء ليبلغ الظّهر المنشود والغفران المقصود..

فإذا كانت أبواب التوبة مشرعة بالإطلاق – في رمضان وفي غير رمضان – مصداقاً لقوله[ : إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يدي بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها" رواه مسلم، فكيف بها في رمضان؟

وبحسب الترتيب الزماني، تأتي المغفرة في العشر الثاني من رمضان مشفعة برحمة العشر الأوائل، طامعة بالعتق من النار في العشر الأواخر.. مشدودة إلى الخطاب النبوي "أتاكم شهر رمضان، شهر بركة، يغشاكم الله فيه، فينزل الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب الدعاء. فينظر الله تعالى إلى تنافسكم فيه، ويباهي بكم ملائكته. فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله" رواه الطبراني.

وإلى كل ذلك يشير الخطاب النبوي قائلاً: "إذا كان أول ليلة من رمضان صفّدت الشياطين ومردة الجن، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وينادي منادٍ: أيا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة".

والخطاب النبوي يؤكد أن الغفران محقق في رمضان في حال تحققت شروط الصوم، فقال عليه الصلاة والسلام: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" رواه ابن خزيمة في صحيحه.

والملفت أن المسؤولية الشرعية تتعاظم في شهر رمضان، لما تشكله أجواءه من مناخات طاهرة نظيفة تعين على كل خير، وتبعد عن كل شر، وتسقط كل ذرائع الإنحراف، وهذا المقصود في قوله صلى الله عليه وسلم: "بَعُدَ من أدرك رمضان فلم يغفر له".

ومن سياق الأحاديث النبوية الشريفة يتبين لنا مدى فاعلية شهر رمضان في توفير شروط التوبة، وتهيئة موجبات المغفرة. وإلى هذا المعنى كانت إشارة الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل يغفر في أول ليلة من شهر رمضان لكل أهل هذه القبلة، وأشار بيده إليها. فجعل رجل يهز رأسه ويقول: بخ بخ. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا فلان ضاق بك صدرك؟ قال: لا، ولكن ذكرت المنافق. فقال: إن المنافق هو كافر، وليس لكافر من ذلك شيء".

فلنقبل أيها الأخوة الصائمون على الله في شهر رمضان وفي كل شهر، ولنسأله تعالى الرحمة والمغفرة، ملبّين نداءه الكريم: [ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) ] (الزمر).

[5] شهر العتق من النار

لقد اختص الله تعالى شهر رمضان بعطاء منه جزيل، ومن أجزل عطاءً من الله ]وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) [ (الإسراء).

إنه العتق من النار... والفوز برضى الله وجنته ونعيمه المقيم.. وهل من عطاء أجزل وأفضل من هذا العطاء؟ بل هل من عطاءٍ يضاهيه؟ ]إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً (33) وَكَأْساً دِهَاقاً (34) لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا كِذَّاباً (35) جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَاباً (36) [ (النبأ).

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ للصائمين باب في الجنة يقال له (الريان) لا يدخل منه أحد غيرهم. فإذا دخل آخرهم أُغلق. من دخل شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً ]رواه ابن خزيمة في صحيحه.

وتبياناً لما اختص الله به شهر رمضان من خير وعطاء، خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين في آخر يوم من شعبان فقال:  [ قد أظلّمكم شهر عظيم، شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعاً. من تقرب فيه بخصلة من الخير، كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه. وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة. وشهر المواساة، وشهر يزداد فيه رزق المؤمن. من فطر فيه صائماً كان مغفرة لذنوبه، وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينتقص من أجره شيء] رواه ابن خزيمة في صحيحه.

لقد امتن الله تعالى على الصائمين القائمين أن فتح لهم أبواب رحمته في العشر الأوائل، وأكرمهم بالمغفرة في العشر الثاني، وتوج عطاءاتهم بالعتق من النار في العشر الأخير.

بل إن الله اختص شهر رمضان بعميم فضله حيث بشّر عزّ وجلّ بإعتاق الصائمين من النار في كل يوم، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله عند كل فطر عتقاء، وذلك في كل ليلة" رواه ابن ماجة.
[6] . رمضان شهر القرآن

إنه يكفي رمضان شرفاً وتكريماً أن اختصه الله تعالى بنزول القرآن الكريم دون سائر الشهور. قال تعالى: ]شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ[ (البقرة:185).

والقرآن كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من عزيز حميد. ومن جوامع الكلم في القرآن قوله e: "أتاني جبريل فقال: يا محمد! إن الأمة مفتونةٌ بعدك، فقلت له: فما المخرج يا جبريل؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحُكم ما بينكم، وهو حبل الله المتين، وهو الصراط المستقيم، وهو قولٌ فصل، ليس بالهزل، إن القرآن لا يليه من جبارٍ ويعمل بغيره، إلا قصمه الله، ولا يبتغي علماً سواه إلا أضله الله، ولا يخلق عن رده، وهو الذي لا تفنى عجائبه، من يَقل به يصدق، ومن يحكم به يعدل، ومن يعمل به يؤجر، ومن يقسم به يقسط" رواه الإمام أحمد في مسنده.

وقوله e: "إن هذا القرآن مأدبة الله فأقبلوا من مأدبته ما استطعتم. إن هذا القرآن حبل الله، والنور المبين، والشفاء النافع، عُصبة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يزيغ فيُستعتب، ولا يعوج فيقوم، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق من كثرة الرد، اتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته، كل حرف عشر حسنات. أما أني لا أقول (ألم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف" رواه الحاكم.

- والقرآن هو المصدر الأول للتشريع الإسلامي، وهو الدستور الأساس للمنهج الرباني، وهو العاصم من الزّيغ، والنور المبين، والدال على الطريق القويم والصراط المستقيم. قال تعالى: ]قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) [ (المائدة) وفي وصية لأبي ذر الغفاري قال: (عليك بتلاوة القرآن فإنه نور لك في الأرض، وذخر لك في السماء) ابن حبان. وقال e: "تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله، وستني، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض" رواه الحاكم.

- والقرآن الكريم شافع مشفع يوم القيامة، بدليل قوله e: "القرآن شافع مشفع، وماحل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار" رواه الطبراني وابن ماجة، وبدليل قوله e: "اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه" لمسلم، وقوله: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب إني منعته الطعام الشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان" رواه الإمام أحمد في مسنده.

- والقرآن قوة لمن يتلوه ويتدبره، وعزة لمن يدعو إليه ويبلغه، ورفعة في الدنيا والآخرة. وذلك بدليل قوله e: "حامل القرآن حامل راية الإسلام، من أكرمه فقد أكرم الله، ومن أهانه فعليه لعنة الله" مسند الفردوس، وقوله: "إن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع به آخرين" رواه مسلم.

- والقرآن حجة للإنسان أو حجة عليه:
* فمطلوب من صاحب القرآن أن يلتزم أوامره، يحل حلاله ويحرم حرامه، مصداقاً لقوله e: "ما آمن بالقرآن من استحل محارمه" رواه الترمذي.
* ومطلوب من قارئ القرآن أن يتعبد الله في قراءته، وأن يتعبده في تدبر معانيه، حتى لا يكون معنياً بقوله e: "رب تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه".

- والقرآن الكريم مناط التكليف الرباني لعباد الله أجمعين، ومعقد الحجة الشرعية على الناس أجمعين... وهذا ما يفرض على قارئ القرآن أن يدرك أنه معنيّ بما يرد فيه من أوامر ونواه وتكاليف وأحكام. وهذا ما جعل والد الفيلسوف الإسلامي محمد إقبال، رحمهما الله، بقول لابنه كلما رآه يتلو كتاب الله: (إقرأ القرآن وكأنه عليك ينزل).
وهذا ما يفرض على المسلم دوام قراءته وتدبره، ومتابعة ما يستجد من دلائل إعجازه وبخاصة في المجالات العلمية (في الفلك، والطب، الأرض، البحار.. الخ). وفي المكتبات اليوم الكثير من المؤلفات والتسجيلات الصوتية.
[7] . رمضان شهر الجهاد

 ومن بركات شهر رمضان وفضائله
 أنه شهر الجهاد بكل جوانبه وأبوابه ومراتبه، من ذلك:
 *الجهاد النفسي:

وهو الجهاد الأكبر بحسب رسول الله e بعد عودته بالمسلمين من إحدى الغزوات: "قدمتم خير مقدم، وقدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، مجاهدة العبد هواه" أخرجه الخطيب البغدادي.

ففي االصيام مغالبة الأهواء والطباع، وترويض النفس الأمارة بالسوء، حتى يستقيم حالها على منهج الله، وتنزل عند أحكامه ومبادئه، مصداقاً لقوله تعالى: ] وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً (36)   [ (الأحزاب).

ومن أجل ذلك جاء الخطاب النبوي مشدداً على المقصد التربوي للصوم.. فقال e: "قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به. والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم. والذي نفس محمد بيده، لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك. وللصا
ل إن الخطاب النبوي ليحذر من صوم بلا مكارم وقيم. فيقول e: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" رواه الإمام أحمد في مسنده والبخاري في صحيحه، ويقول: "رب قائم حظه من قيامه السهر، ورب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش" أخرجه الطبراني، وقوله: "ليس الصيام من الأكل والشرب، وإنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابّك أحد أو جهل عليك فقل: إني صائم إني صائم" أخرجه الحاكم في المستدرك.
*الجهاد الاجتماعي الخيري:

وهو الجهاد الذي يقع ضمن دائرة البذل والعطاء والمواساة ومساعدة الفقراء وكفالة الأيتام والأرامل مصداقاً لقوله e: "الساعي على الأرملة والمسلمين، كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليل الصائم النهار" رواه البخاري ومسلم.

ورمضان مدرسة في المواساة وبذل الخير للآخرين لا تضاهيها مدرسة أخرى . فمن هديه e:
- من فطر صائماً كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً" رواه ابن ماجة.
- "الصائم إذا أُكل عنده الطعام، صلت عليه الملائكة" رواه ابن ماجة.
- إن الصائم تسبح عظامه وتستغفر له ما أُكل عنده" رواه ابن ماجة.
- ولقد كان رسول الله e أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان.
- وزكاة الفطر مَعْلَمٌ من معالم الجهاد الخيري في رمضان، ويشير إلى فضلها رسول الله e بقوله: "إن رمضان معلق بين السماء والأرض، لا يرفع إلا بزكاة الفطر" رواه ابن صصري في أماليه.

- وفي حديث ابن عمر المتفق عليه: (فرض رسول الله e زكاة الفطر في رمضان على الناس، صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، على العبد والحر والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين".

- وتحقيقاً لإسعاد المسلمين جميعاً في رمضان، جاءت لفتة رسول الله e إلى مقاصد الزكاة في قوله: "أغنوهم بها عن السؤال في ذلك اليوم".

* الجهاد السياسي:

ويقع ضمن دائرة العمل لتحقيق العدالة والمساواة والحرية، والتي اختصرها خطاب (ربعي بن عامر) لرستم قائد جيوش فارس بقوله: (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد القهار، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدالة الإسلام).

كما يقع ضمن دائرة الصدع بالحق، والأخذ على يد الظالم. وهو من أفضل القربات إلى الله كما يخبر الرسول e: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" رواه ابن ماجة.

والإسلام يعتبر هذا النوع من الجهاد خطوة وقائية تحفظ الأمة من الضعف والانحلال والسقوط. وتأكيداً لذلك جاء الخطاب النبوي محذراً قائلاً: "إذا رأيت أمتي تهاب الظالم أن تقول له: إنك ظالم، فقد تودع منهم" رواه الإمام أ؛مد في مسنده.

- ففي رمضان تم هدم أكبر أصنام العرب، (اللات ومناة وسواع) حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.

- وفي رمضان تم هدم مسجد الضرار، استئصالاً لشأفة النفاق وحتى تكون المساجد لله، يعمرها من آمن بالله واليوم الآخر.. قال تعالى: ] وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) [ (التوبة).

* الجهاد العسكري:
وفي رمضان وقعت أكبر الغزوات والمعارك بين المسلمين وبين أعداء الإسلام من القوى الجاهلية، وكان النصر دائماً حليف المؤمنين.
* في غزوة بدر: انتصر المسلمون وهم قلة ونزل قوله تعالى: ] وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)..[ (آل عمران)، ]كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)  [(البقرة).

* ويوم الفتح: دخل رسول الله e مكة فاتحاً، وخطب في الجموع قائلاً: "لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعاظمها بالآباء، والناس لآدم وىدم من تراب". ثم تلا قول الله تعالى: ] يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)  [ (الحجرات).

* وفي رمضان وفي العاشر من الهجرة، بعث الرسول e الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في سرية إلى بلاد اليمن. وقد حمل معه كتاباً نبوياً إلى أهلها، وبخاصة فبيلة همدان التي أسلمت جميعها في يوم واحد، وصلى أفرادها جميعاً خلف الإمام علي.
* وفي رمضان من السنة 91 هجرية نزل المسلمون إلى الشاطئ الجنوبي لبلاد الأندلس، وغزوا بعض الثغور الجنوبية.
*وفي رمضان من السنة 92 هجرية انتصر القائد المسلم طارق بن زياد على الملك رودريك في معركة فاصلة.
* وفي رمضان من العام 584 هجرية، كان صلاح الدين الأيوبي قد أحرز انتصارات باهرة على الصليبيين حتى استخلص منهم معظم البلاد التي استولوا عليها. وحين نصحه بعض رجاله أن يرتاح في شهر رمضان، خاف من انقضاء الأجل وقال: (إن العمر قصير والأجل غير مأمون)، وواصل زحفه حتى استولى على قلعة صفد الحصينة في منتصف رمضان.

*وفي رمضان من العام 658 الموافق (1260م)، هزم المماليك بقيادة الملك المظفر (قطز) التتار في معركة عين جالوت، وأوقفوا زحفهم نهائياً .. وكانوا يستهدفون القضاء الشامل على العالم الإسلامي .
[8] رمضان شهر التراويح

ومن بركات شهر رمضان أنه شهر (التراويح) والمعروفة بصلاة القيام. وهي سنة مؤكدة، تسنّ فيها الجماعة، ووقتها بعد صلاة العشاء من كل ليلة من ليالي رمضان.

* صلاة التراويح ليست محددة الركعات فللمسلم أن يصليها ثمانية،وله أن يصليها عشرين سوى الوتر.

* وفي فضلها قال رسول الله e: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" رواه الجماعة.

* وقيام الليل (أو التهجد) يعتبر في مقدمة العبادات ذات الأثر البالغ في تكوين الشخصية المسلمة وتحليتها بالسلوك الرباني. ومن أجل ذلك اعتبرت المحضن الأساس للتنشئة الإيمانية حيث يقول تعالى: ]إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلاً (6)[ (المزمل).

* وقد وصف الله تعالى عباده المؤمنين:
- أن جنوبهم تتجافى عن المضاجع.
- وأنهم كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون.
- وبالأسحار هم يستغفرون.

* وفي الخطاب النبوي إشارة واضحة إلى فضيلة قيام الليل وأثره التربوي في حياة الدعاة والصالحين، حيث يقول e: "عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومنهاة عن الإثم وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد" رواه الترمذي والطبراني.

* وروي أن جبريل عليه السلام جاء النبي e فقال: "يا محمد .. عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزى به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس" رواه الحاكم في المستدرك.

* وفي الحث على قيام الليل، والتحذير من وسوسة الشيطان بالتكاسل، قال رسول الله e: "إذا أراد العبد الصلاة من الليل، أتاه ملك فيقول له: قم فقد أصبحت، فصل واذكر ربك. فيأتيه الشيطان فيقول: عليك ليل طويل وسوف تقوم، فإن قام فصلى أصبح خفيف الجسم قرير العين، وإن هو أطاع الشيطان حتى أصبح، بال في أذنه" رواه الطبراني.

إن المسلم على موعد يومي مع خالقه عز وجل. فهل يُعقل أن يخلف أحدنا هذا الموعد ونحن لا نخلف مواعيدنا مع خلق الله... أولم نسمع قوله e: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟" رواه البخاري ومسلم.
[9] شهر ليلة القدر

ومن جليل ما اختص الله به شهر رمضان، أن جعل فيه ليلة هي خير من ألف شهر، قال تعالى: ]إنا أنزلناه في ليلة القدر (1) وما ادراك ما ليلة القدر (2) ليلة القدر خير من ألف شهر (3) تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر (4) سلام هي حتى مطلع الفجر (5) [ (القدر)، وقال: ]إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منزلين (3) فيها يفرق كل أمر حكيم (4) [ (الدخان).

·   فليلة القدر التي تقع في العشر الأخير من شهر رمضان، وترجيحاً في السابع والعشرين أو التاسع والعشرين منه، هي الليلة التي اصطفاها الله تعالى بنزول كتابه من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ولبدء تنزلها على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فعن أبي سعيد الخدري أنه قال: (اعتكفنا مع رسول الله  في العشر الأوسط من رمضان، فقال: "إني أُريت ليلة القدر، ثم أنسيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر، وإني رأيت أني أسجد في ماء وطين من صبيحتها") رواه البخاري ومسلم وابن ماجة.

·   وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على تلمس كل أسباب الخير وبخاصة في العشر الأخير من رمضان (المحضن الزمني) لليلة القدر. فقد حدّثت السيدة عائشة رضي الله عنها فقالت: (كانت النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد غيره) رواه ابن ماجة، وفي موضع آخر قالت رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله) رواه ابن ماجة، وفي رواية البخاري (إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدّ، وشد المئزر).

·   ويشير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فضل ليلة القدر فيقول: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" رواه البخاري.

·   أما عن تسمية الليلة بليلة القدر، فلعظم قدرها وفضلها عند الله، ولأنه تعالى يقدِّر فيها ما يكون من الآجال والأرزاق، وكل المقدّرات الأخرى في العام الذي يليله. قيل للحسين بن الفضل: (أليس قد قدر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأر، قال نعم، فقيل له: فما تعني ليلة القدر؟ قال: سوق المقادير إلى المواقيت، وتنفيذ قضاء المقدور".

·   قال ابن عباس: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني إسرائيل حمل السلاح على عاتقه ألف شهر. فعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك وتمنى ذلك لأمته. فقال: "يا رب جعلت أمتي أقصر الأمم أعماراً وأقلها أعمالاً"، فأعطاه الله تبارك وتعالى ليلة القدر فقال: ]ليلة القدر خير من ألف شهر[ التي حمل فيها الاسرائيلي السلاح في سبيل الله لك ولأمتك إلى يوم القيامة.

·   قال الشعبي: (هي ليلة سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً ولا أذى) وقال: (هي تسليم الملائكة على أهل المساجد من حين غياب الشمس إلى أن يطلع الفجر، يمرون على كل مؤمن ويقولون: السلام عليك أيها المؤمن).

·        وقال عطاء: (هي سلام على أولياء الله وأهل طاعته، حتى مطلع الفجر).

·   وقال ابن عباس: (في تلك الليلة تصفد الشياطين، وتغل عفاريت الجن، وتفتح فيها أبواب السماء كلها، ويقبل الله فيها التوبة لكل تائب).

·   وفي صفة ليلة القدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليلة القدر ليلة بلجة، لا حارة ولا باردة، ولا سحاب فيها ولا مطر، ولا ريح، ولا يرمى فيها بنجم، ومن علامة يومها تطلع الشمس لا شعاع لها" رواه الطبراني في الكبير.

·   وقال صلى الله عليه وسلم : "ليلة القدر ليلة سمحة، طلقة، لا حارة، ولا باردة، تصبح الشمس صبيحتها ضعيفة حمراء" شعب الايمان للبيهقي.

·        وزاد الزيادي: "كأن فيها قمراً يفضح كواكبها" وقال: "لا يخرج شيطانها حتى يضيء فجرها".
[10] رمضان شهر الصحّة

ومن بركات شهر رمضان شهر الصحة وفيه يجري التخفيف من تناول الطعام والشراب، فضلاً عن الامتناع عن ذلك سحابة النهار، حيث يرتاح الجهاز الهمضي، وتتحقق تنقية البدن من الرواسب الزائدة عن جاحته.

إنه (الريجيم) الرباني السنوي، الذي يُغني عن أي (ريجيم) آخر إن اعتمدت شروطه، واتبعت تعليماته...

* فالإسلام يعتبر المعدة بيت الداء، والحمية أصل كل شفاء ورأى كل دواء. إلى ذلك جاء قوله e: "المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء".

* والإسلام يدعو في الخطاب القرآني إلى اعتماد التخفيف من الطعام والشراب أساساً فيقول تعالى: ]..وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) [ (الأعراف).

* بل الإسلام ليذهب إلى أكثر من ذلك حيث يحدد بانتظام ودقّة متناهية، طريق التعامل مع الطعام والشراب، حيث يقول e: "ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه" رواه الإمام أحمد في مسنده.

* والخطاب النبوي يقطع بحتمية تحقق الصحة من خلال الصوم، حيث يقول: "صوموا تصحوا" رواه ابن السني.

وهنا استذكر ما سمعته مباشرة من، مدير الأمن القومي في عهد نيكسون، (السيد كراين) والذي اعتنق الإسلام، حيث التقيته في مجمع أبو النور الإسلامي بدمشق، قال: (كنت مصاباً بمرض الصداع النصفي (الشقيقة) على مدى عشرات السنوات، ولم تنفع كل العلاجات في شفائي، وبعد اعتناقي الإسلام، اطلعت على الأحاديث النبوية، ومنها قوله e: "صوموا تصحوا"، فبدأت بالصوم.. وبعد فترة قصيرة شفيت تماماً، والحمد لله).

* ورمضان شهر الصحة كذلك لأنه الشهر الذي يكون المرء فيه قريباً من ربه مقبلاً عليه، ومنيباً إليه، خاشعاً متضرعاً بين يديه، مداوماً على ذكره وشكره، وحسن عبادته، حيث تتحقق السكينة ويحصل الاطمئنان، وهو موعود الله تعالى في كتابه: ]الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) [ (الرعد)، وفيه جاء قوله تعالى: ] أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) [ (الزمر).

وذكر الله تعالى مصرف الوسواس الشيطانية التي تتلف الأعصاب، وتهيج النفس وتكدّرها، مصداقاً لقوله e: "إذا ذكر الإنسان الله خنس شيطانه، وإذا غفل وسوس".
فوائد الصيام في حوار مع "البروفسور" مصطفى الحفار:
أجرت إحدى الصحف بتاريخ مقابلة مع البروفسور مصطفى الحفار حول فوائد الصيام الطبية، وهذا نصها:
* فوائد الصوم طبياً:
بادئ ذي بدء، أود أن أتوقف عند ما يسمى "الجو الرمضاني"، وما يضفيه على المجتمع بأسره من انعكاسات خيّرة. فهذا الجو بحد ذاته يؤثر إيجابياً في الصحة النفسية الفردية. وهذا له فوائده بالنسبة لأنواع متعددة من المشاكل الصحية التي لها علاقة بالاضطرابات الداخلية الناجمة عن تعذيب ضمير والتي تحتاج إلى توبة مع الذات بعمل الخير وتنقية النفس. فالراحة الداخلية هذه تبعد:
- عن القلب التقلصات الضارة.
- وعن الشرايين التشنجات وضغطها.
- وعن الهضم اضطراباته.
- كما وإن وضع المعدة يرتاح وترتاح معه إفرازاتها وتنتظم، مبعدة عن أغشيتها داء "القرحة" اللعين.
* ضرورة لكل فرد وخصوصاً المترفين:
إن كل فرد منا هو بحاجة للانكفاء عن الطعام والشراب، وبصورة دورية كي يستطيع التخلص من الرواسب والفضلات وبخاصة لدى المترفين.
* في فرنسا مراكز تبنّت الصوم للمعالجة:
وفي فرنسا توجد مراكز متخصصة في دراسة أمراض التغذية، تبنّت لمرضاها الصيام الكامل الدوري، وأسمته: "العلاج الرمضاني"، بعد أن تأكد لها ولمرضاها جدوى هذه الطريقة وفوائدها على أعضاء الجسم كله:
- القلب ينتظم خفقانه وينهم بفترة راحة من الناحية الوظائفية الناجمة عن عملية الهضم.
- الدم تنتقي منه الزوائد والدهون والحموضات.
- كذلك الكبد يقوم بوظائفه، مع الصوم، دونما إجهاد فيصنع للجسم المواد الحيوية براحة.
* الإفرازات الحمضية:

أما المعدة فيكثر معدل إفرازاتها الحمضية والهضمية، أول فترة الصيام، ثم تتراجع تدريجياً. وتبقى كذلك مدة طويلة في مرحلة ما بعد الصوم، يشعر معها الصائم بالاكتفاء بكمية أقل من الأطعمة. فيُبعد عنه وعن معدته زيادة الإفرازات التي هي من أهم أسباب "التقرح"، والكلى يخف عنها العمل الوظائفي المضني.

إلى غير ذلك من عمليات التمائل (التحويل) للنشويات، السكريات، البروتينات، والدهنيات المتكاثرة، التي تجهد من أجل هضمها وتماثلها (تحويلها) غدد عديدة، إضافة إلى المعدة كالبنكرياس والكبد. ففضلاتها تتكاثر ومع تكاثرها تزداد إصابة غذائية هي بالأصل:
- توترات التصلب الشرياني.
- والقصور في عضلات القلب.
- والتدهن في الكبد وحصى المرارة الدهنية والكلسية.
- وحصى الكلى وقصورها.
- وارتفاع الضغط ومردوده على باقي الأجهزة ومنها:
الدماغ – قصور البنكرياس – وما يسببه لمرضى السكري والتقرح المعدي.
كل هذه الإصابات المرضية الغذائية يكثر حدوثها بالطبع عند من لديهم استعدادات وراثية، ولكن الجميع معرضون لها وإن بنسب متفاوتة.

* حالات الضرر في الصوم:

علينا أننتعرف على حالات الضرر في الصوم كما عرفنا فوائده، التزاماً بقاعدة "لا ضرر ولا ضرار"، واستفادة من رخصة الإفطار للمرضى. كما وعلى عالم الدين أو الطبيب معرفة الأضرار التي يمكن أن تتأتى من متابعة الصائم لصيامه، وسنذكر أهم هذه الأضرار:

- مرضى السكري: المصاب بالسكري وخاصة الذي عليه أخذ الأدوية التي تهبط معدل السكري في الدم بشكل منتظم، عليه أن يراعي أوقات مأكله وشرابه مرّات عديدة في اليوم، نهاراً وليلاً. فمنهم عن "عدم معرفة" يتمسكون بالصوم، فيعرضون حياتهم للخطر من جراء هبوط معدل السكري المعالج، وما يحدثه من شلل دماغي، وقصور في القلب والكلى، وهبوط في الضغط، ومرض في الأعين.

- القصور في عضلات القلب: كذلك حالة من يخضع لمعالجة أو مراقبة لقصور في عضلات القلب، فهو معرض للخطر من جراء تلاعب معدل السكر والمياه، إذ عليه أن ينتظم في شرابه ومأكله وعلاجه وأوقاته.

- الإفراط في الأكل خلال فترة الإفطار: ولا ننسى ما يقوم به غالباً الصائم عندنا من النهم خلال الفترة بين الإفطار والسحور، وهذا عنصر إضافي وذو تأثير ضار على السكري والقلب معاً.

- حصى الكلى: مثال آخر يمنع معه الصوم، وهو "حصى الكلى" إذ يزداد حجمها مع الاحجام عن تناول المياه بكثرة، وبخاصة إذا كانت الحصى داخل الكلى، فيصعب إنزالها أو حتى تفتيتها في بعض الأحيان.

- القرحة: أما القرحة، فهي تتأذى أثنام الصوم وبعده، فكثرة الحموضة تنكأ حتى القرحة المندملة، لكون غشائها غير واق، فتتعرض من جراء هذه الحموضة المرتفعة لنكسة، ومضاعفات تصل إلى النزيف في 18% من الحالات.

- المسنون: وهذا فإن المرضى المسنين وخاصة المصابين بأمراض مستعصية الشفاء، والتي تحتاج إلى تنشيطاً وتقوية وحتى أمصالاً في بعض الأحيان، يؤديهم الصوم. ومنهم من يحتاج لإجراء عملية ما، فلسوء حالته وسنه المتقدم يتردد الجراح في إجرائها.

فإذا ما صام هذا المريض وأفطر على مأكل "مدهن" سيعرض نفسه لنوبة مرارة، يصعب على الجرّاح انتشاله منها. فعلينا إذاً منعه من هذه المخاطر.

هؤلاء المرضى وغيرهم ممن لا يجوز طبياً صومهم يستطيعون إفتداء ذلك بإطعام المساكين، فالدين يُسر وليس بعُسر.
[11] رمضان شهر الاجائزة
عيد الفطر السعيد ويوم الجائزة

ومما أكرم الله به شهر رمضان أن جعله شهر (الجائزة) التي تُمنح لكل صائم قام إيماناً واحتساباً. وذلك في صبيحة أول يوم من أيام عيد الفطر المبارك. مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم فيما ورد عن ابن عباس رضي الله عنه مرفوعاً: "إذا كان يوم الفطر هبطت الملائكة إلى الأرض، فيقومون على أفواه السكك ينادون بصوت يسمعه جميع خلق الله إلا الجن والإنس يقولون: يا أمة محمد، أخرجوا إلى رب كريم يعطي الجزيل ويغفر الذنب العظيم، فإذا برزوا إلى مصلاهم، يقول الله عز وجل لملائكته يا ملائكتي ما جزاء الأجير إذا عمل عمله؟ فيقولون: إلهنا وسيدنا توفيه أجره، فيقول: إني أشهدكم إني قد جعلت ثوابهم من صيامهم وقيامهم رضائي ومغفرتي، انصرفوا مغوراً لكم".

إن تخصيص رمضان بجائزة ربانية تمنح للذين أحسنوا الصيام والقيام، لدليل على أهمية ومكانة هذا الشهر، كما على عظيم فضل الصيام والقيام عند الله عز وجل.

أما عن الجائزة فلا شك أنها ثمينة لا تضارعها جائزة أخرى.. وقد تكون بشارة بالعتق من النار.. إنها في كل الأحوال عطاء جزيل من الله لا يقل عن محبته ورضاه.. والخطاب النبوي يؤيد ذلك بل يؤكده قوله صلى الله عليه وسلم: "كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى ما شاء الله، قال عز وجل: ]إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي[ للصائم فرحتان، فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فمه أطيب عند الله من ريح المسك" رواه ابن ماجة.

ومما يزيد في تأكيد فضل شهر رمضان، أن الله تعالى اختص صائمه وقائمه بباب من أبواب الجنة لا يدخل منه غيرهم. بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "في الجنة باب يدعى (الريان)، يدعى له الصائمون فمن كان من الصائمين دخله، ومن دخله لا يظمأ أبداً" رواه ابن ماجة.
وفي رواية: "للصائمين باب في الجنة يقال له (الريّان)، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخل آخرهم أُغلق، من دخل فيه شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً" رواه النسائي.

د. فتحي يكن