ملخص الخطبة
| |
1- حاجتنا إلى صناعة الأمل في ظل واقعنا المرير. 2- قصة إسلام الأنصار. 3- الهجرة النبوية دروس في صناعة الأمل. 4- المنحة قد تأتي في طيات المحنة. 5- بعض الخطوب التي ألمَّت بالمسلمين ثم كان الفرج. 6- باليأس والقنوط ليسا من صفات المؤمنين.
| |
الخطبة الأولى
| |
وبعد:
ما أحوجنا ونحن في هذا الزمن، زمن الهزائم والانكسارات والجراحات إلى تعلم فن صناعة الأمل ونحن نقف مع السيرة ومع حديث الهجرة نأخذ دروساً في ذلك، فإلى ذلك، إلى ليلة من ليالي الموسم بمنى، والذي تجتمع فيه قبائل العرب للحج، وفي مجلس من المجالس، كان ستة نفر منزوين يتحادثون ويتسامرون فيسمع حديثهم رجلان فيأتيانهم، فمن كان يظن أن يكون أولئك النفر الستة بداية مرحلة جديدة من العز والتمكين، والبذرة الأولى لشجرة باسقة ظلت تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها؟ ومن كان يخطر بباله أن تشهد تلك الليلة من ليالي الموسم ورسول الله
![]()
يا سبحان الله .. إن نصر الله يأتي للمؤمن من حيث لا يحتسب ولا ُيقدّر، لقد طاف رسول الله
![]() ![]()
لم تأت النصرة والحماية والتمكين من تلك القبائل العظيمة ذات المال والسلاح، وإنما جاءت من ستة نفر جاؤوا على ضعف وقلة.
إنها الأقدار يوم يأذن الله بالفرج من عنده، ويأتي النصر من قلب المحنة، والنور من كبد الظلماء، والله تعالى هو المؤيد والناصر، والبشر عاجزون أمام موعود الله.
ستة نفر من أهل يثرب كلهم من الخزرج دعاهم رسول الله
![]() ![]()
أرأيتم… يُعرض الكبراء والزعماء ويستكبر الملأ وتتألب القبائل وتتآمر الوفود وتُسد الأبواب… ثم تكون بداية الخلاص بعد ذلك كله في ستة نفر لا حول لهم ولا قوة..
فهل يدرك هذا المعنى المتعلقون بأذيال الماديةِ الصارخةِ والنافضون أيديَهم من قدرة الله وعظمته؟ وهل يدرك هذا المعنى الغارقون في تشاؤمهم اليائسون من فرج قريب لهذه الأمة المنكوبةِ المغلوبة على أمرها؟
إن الله ليضع نصره حيث شاء وبيد من شاء، وعلينا أن نعمل على أن نحمل دعوتنا إلى العالمين وأن لا نحتقر أحداً ولا نستكبر على أحد، وعلينا أن نواصل سيرنا مهما يظلمُ الليل وتشتد الأحزان، فمن يدري لعل اللهَ يصنع لنا في حلكات ليلنا الداجي خيوط فجرٍ واعد؟ ومن يدري لعل آلامَنا هذه مَخاض العزة والتمكين؟
عباد الله، ونحن في عامٍ هجري جديد يقبل محملاً بما فيه، وعلى أعقاب عام هجري مضى مودع بما استودعناه، نقف متذكرين هجرة المصطفى
![]() ![]()
إن من أعظم دروس الهجرة وأجل عبرها (صناعة الأمل) نعم. إن الهجرة تعلم المؤمنين فن صناعة الأمل. الأمل في موعود الله. الأمل في نصر الله. الأمل في مستقبل مشرق للا إله إلا الله. الأمل في الفرج بعد الشدة، والعزة بعد الذلة، والنصر بعد الهزيمة.
لقد رأيتم كيف صنع ستة نفر من يثرب أمل النصر والتمكين. وهاهو رسول الله
![]()
قال ابن إسحاق: فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى نام فيثبون عليه.
وعلى أن كل حساب مادي يقطع بهلاك رسول الله
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]()
ومرة أخرى يصنع الأمل في قلب المحنة، وتتغشى القلوب سكينة من الله وهي في أتون القلق والتوجس والخوف.. يصل المطاردون إلى باب الغار، ويسمع الرجلان وقع أقدامهم، ويهمس أبو بكر: يا رسول الله لو أن بعضَهم طأطأ بصَره لرآنا! فيقول
![]()
وكان ما كان، ورجع المشركون بعد أن لم يكن بينهم وبين مطلوبهم إلا خُطوات! فانظر مرة أخرى كيف تنقشع عتمة الليل عن صباح جميل. وكيف تتغشى عنايةُ الله عبَاده المؤمنين
![]() ![]()
وإذا العنايةُ لاحظتك عيونُها نم فالحوادثِ كلهن أمانُ
ويسير الصاحبان في طريق طويل موحش غير مأهول لا خفارة لهما من بشر، ولا سلاح عندهما يقيهما:
لا دروعٌ سابغاتٌ لا قنـا مشرعـاتٍ لا سيوفٍ منتضاه
قوة الإيمانِ تغنـي ربَها عن غرارِ السيف أو سنِ القناة
ومن الإيمانِ أمنٌ وارفٌ ومن التقوى حصـونٌ للتقـاة
يسير الصاحبان حتى إذا كانا في طريق الساحل لحق بهما سراقة بن مالك طامعاً في جائزة قريش مؤملاً أن ينال منهما ما عجزت عنه قريش كلها، فطفق يشتد حتى دنا منهما وسمع قراءة رسول الله
![]() ![]() ![]() ![]()
لقد اصطنع الأمل في الله ونصره فنصره الله وساخت قدما فرس سراقة، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء كالدخان، فأدرك سراقة أنهم ممنوعون منه. ومرة ثالثة جاء النصر للرسول
![]()
ويبلغ أهل المدينة خبر هجرة الرسول
![]() ![]()
فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله
![]() ![]()
قال أبو بكر: (ومضى رسول الله
![]()
قال أنس: (لما قدم رسول الله
![]()
وصدق من قال:
أقبِِل فتلـك ديـارُ يثربُ تقبلُ يكفيك من أشواِقها ما تحملُ
القومُ مـذ فارقت مكـةٌ أعين تأبى الكرى وجوانح تتململُ
يتطلعون إلى الفجاج وقولُهـم أفما يطالعنا النبي المرسـل
رفت نضارتها وطاب أريجها وتدفقت أنفاسـها تتسلسـل
فكأنما في كـل دار روضـة وكأنمـا في كل مغنى بلبل
وهكذا أيها الإخوة الكرام، تعلمنا الهجرةُ في كل فصل من فصولِها كيف نصنعُ الأمل، ونترقب ولادةَ النورِ من رحم الظلمة، وخروجِ الخير من قلب الشر، وانبثاق الفرج من كبد الأزمات. فما بعدُ اشتدادِ ألمِ المخاضِ إلا الولادة، وليس بعدُ ظلمةِ الليل إلا انبثاقَ الفجر
![]() ![]() ![]() | |
الخطبة الثانية
| |
الحمد لله الحمد لله الذي نشر بقدرته البشر، وصرَّف بحكمته وقدَّر، وابتعث محمدًا إلى كافة أهل البدو والحضر، فدعا إلى الله، فعاداه من كفر، فاختفى واستتر، إلى أن أعز الله الإسلام برجال كأبي بكر وعمر. فصلوات الله عليه، وعلى جميع أصحابه الميامين الغرر، وعلى تابعيهم بإحسان على السنة والأثر. صلوات الله عليه ما هطلت الغمائم بتَهْتَان المطر، وهَدَلت الحمائم على أفنان الشجر. وسلم تسليمًا كثيرًا على سيد البشر.
سلام على جَمعٍ الْتَقى حبًا في ذكر الله، وحيَّا الله قلوبًا أقبلت تأرز إلى بيوت الله، وعلى حبكم أيها الجمع أشهد الله، وأسأله أن يجمع قلوبنا على تقواه، وأن يظلنا تحت ظله، يوم لا ظل إلا ظله. اللهم اجعل هذا الجمع في صحائف الحسنات، في يوم تَعزُّ فيه الحسنات، واغفر اللهم لنا ما يكون من زلات. اللهم بك نعتضد، ومن فيض جودك نستمد، اللهم اجعل هذه الكلمات خالصة لوجهك الكريم، وصلة للفوز بجنات النعيم، وانفع بها من تلقاها بالقبول، وبلغنا وسامعها من الخير أجلّ المأمول، أنت أكرم مسئول على الدوام، وأحق من يرتجى منه حسن ختام.
أما بعد، عباد الله، ما أحوجَنا ونحن في هذا الزمن، زمن الهزائم والانكسارات والجراحات إلى تعلم فن صناعة الأمل.
فمن يدري؟ ربما كانت هذه المصائب باباً إلى خير مجهول، ورب محنة في طيها منحة، أوليس قد قال الله:
![]() ![]()
لقد ضاقت مكةُ برسول الله ومكرت به فجعل نصرَه وتمكينَه في المدينة.
وأوجفت قبائل العرب على أبي بكرٍ مرتدة، وظن الظانون أن الإسلامَ زائلٌ لا محالة، فإذا به يمتدُ من بعد ليعم أرجاء الأرض.
وهاجت الفتنُ في الأمة بعد قتل عثمان حتى قيل لا قرار لها ثم عادت المياه إلى مجراها. وتتوالى الفتوحات ليصل بنو عثمان قلبَ أوربا.
وأطبق التتارُ على أمةِ الإسلام حتى أبادوا حاضرتَها بغداد سُرّة الدنيا وقتلوا في بغداد وحدها مليوني مسلم وقيل: ذهبت ريح الإسلام فكسر الله أعداءه في عين جالوت وعاد للأمة مجدها.
وتمالأ الصليبيون وجيشوا جيوشَهم وخاضت خيولَهم في دماء المسلمين إلى ركبها حتى إذا استيأس ضعيف الإيمان نهد صلاح الدين فرجحت الكِفةُ الطائشةُ وطاشتِ الراجحة، وابتسم بيت المقدس من جديد.
وقويت شوكةُ الرافضة حتى سيطر البويهيون على بغداد والعبيديون على مصر وكتبت مسبّة الصحابة على المحاريب ثم انقشعت الغمة واستطلق وجه السُّنة ضاحكاً.
وهكذا يعقب الفرج الشدة، ويتبع الهزيمة النصر، ويؤذن الفجر على أذيال ليل مهزوم … فلم اليأس والقنوط؟
اشتـدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلـج
أيها المسلمون، إن اليأس والقنوط ليسا من خلق المسلم، قال سبحانه:
![]() ![]()
قال ابن مسعود
![]()
إذا اشتملت على اليأسِ القلوبُ وضاق لما بهِ الصدرُ الرحيبُ
ولم تر لانكشافِ الضرِ وجهُـاً ولا أغنـى بحيلتـِه الأريـبُ
أتاك على قنـوطٍ منك غـوثٌ يمـنُ به اللطيفُ المسـتجيبُ
وكل الحـادثاتِ وإن تنـاهت فموصـولٌ بها الفرجِ القريب
فيا أيها الغيورون على أمة الإسلام.. يا من احترقت قلوبهم لآلامها، نعمّا هذا الألم وما أصدقه على إيمانكم وحبِكم لدينِكم، ولكن لا يبلغن بكم اليأسَ مبلغه، فإن الذي أهلك فرعون وعاداً وثمود وأصحاب الأيكة والذي رد التتار ودحر الصليبين قادر على أن يمزق شمل الروم والروس ويبدد غطرسة الصهيونية ويحطم أصنام الوثنية المعاصرة.
وأنت.. يا من ابتلاك الله في رزقك أو صحتك أو ولدك.
أنت.. يا من جهدك الدَّين والحاجة وانتهكتك العلل وأخذ الموت أحبابَك وعُدت في أعين الناس كالدرهم الزائف لايقبله أحد.
أنت.. يا من أصبحت في مزاولة الدنيا كعاصر الحجر يريد أن يشرب منه، ويا من سُدت في وجهك منافذ الرزق وأبواب الحلال.
أنت.. هل نسيت رحمةُ الله وفضله؟ وأن الدنيا متقلبٌ بين حزن وسرور، وضيقٍ وحبور، وأن العاقبةَ لمن اتقى، وأن الجنة هي المأوى ولسوف يعطيك ربك فترضى.
وأن الدنيا دار البلاء فمن سخط فعليه، ومن رضي فله الرضا، فمع الألم يصنع الأمل، وإذا حل الأجل انقطع العمل.
| |