بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد
لقد كان لسليمان عليه السلام رهبةً وهيبةً ومكانةً عند جنده بسبب حزمه ودقَّته في تنظيمهم، فلا يدع أمراً صغيراً كان أو كبيراً إلا قام هو بنفسه بالإشراف عليه وتصريفه . ويدلُّ على ذلك تفقده للطير وما دار بينه وبين الهدهد من نقاش واستجواب : }وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ)20( لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ)21( فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ)22( إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ)23( وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ)24( أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ)25( اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)26{( [النمل : 20-26] .
وقد اختلف المفسِّرون في سبب تفقده للطير على أقوال، منها : أنَّ الشمس دخلت من موضع الهدهد حين غاب، فكان ذلك سبب تفقد الطير ليعرف من أين دخلت الشمس . وقيل : ليدله الهدهد على مكان الماء تحت الأرض . وقيل : لينظر الحاضر منها والغائب ولزومها للمراكز والمواضع التي عيَّنها لها، وهذا هو ظاهر الآية ] انظر تفسير القرطبي(13/177)، وتفسير السَّعدي(ص705)[ . فلم يكتفِ عليه السلام بوزراءه ومساعديه في تسيير مهام مملكته؛ بل باشر هو بنفسه في ذلك . فانظر إلى الهدهد مع صغره كيف لم يخفَ على سليمان حاله، فكيف بعظام الملك . ويرحم الله عمر فإنه كان على سيرته، قال : لو أنَّ سخلة على شاطئ الفرات أخذها الذئب ليُسأل عنها عمر . فرضي الله عنه وأرضاه فقد كان من عادته تفقد أحوال رعيَّته، وأحوال أمرائه بنفسه ]انظر تفسير القرطبي(13/178) [ .
وهذه همسة مُحب في أذن كلِّ والد تهاون في تفقُّد أولاده وفرَّط؛ فلا أشغالك بأعظم من مشاغل سليمان، ولا أولادك بأكثر من جند سليمان، ومع ذلك قال : }ما لي لا أرى الهدهد{. قال عليه الصلاة والسلام : (( ألا كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيَّته، فالأمير الذي على الناس راعٍ وهو مسئول عن رعيَّته، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم، والعبد راعٍ على مال سيِّده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيَّته ))]متفق عليه[ .
والحاصل أنه لما تأكَّد عليه السلام من غياب الهدهد تغيَّظ عليه وتوعَّده، فما هو إلا وقت يسير حتى جاءه الهدهد فقال له : }أحطت بما لم تحط به{، أي : علمت ما لم تعلمه من الأمر . فكان في هذا ردٌّ على من قال إنَّ الأنبياء تعلم الغيب ]انظر تفسير القرطبي(13/181) [ . ثم سرد ما رآه في سياق جميل وعبارات موجزه تحوي معاني عظيمة . قال الشيخ عطية محمد سالم في تتمة أضواء البيان (8/8) : « ففي هذا السياق عشر قضايا يدركها الهدهد ويفصح عنها لنبي الله سليمان :
الأولى : إدراكه أنه أحاط بما لم يكن في علم سليمان .
الثانية : معرفته لسبأ بعينها دون غيرها، ومجيئه منها بنبأ يقين لا شكَّ فيه .
الثالثة : معرفته لتولية المرأة عليهم مع إنكاره ذلك عليهم .
الرابعة : إدراكه ما أوتيته سبأ من متاع الدنيا من كل شيء .
الخامسة : أنَّ لها عرشاً عظيماً .
السادسة : إدراكه ما هم عليه من السجود للشمس من دون الله .
السابعة : إدراكه أنَّ هذا شرك بالله تعالى .
الثامنة : أنَّ هذا من تزيين الشيطان لهم أعمالهم .
التاسعة : أنَّ هذا ضلال عن السَّبيل القويم .
العاشرة : أنَّهم لا يهتدون » .
فانظر إلى هذا الطائر الصغير كيف أدرك توحيد الله عزَّ وجلَّ وما يضاده بينما غفل عنه الكثيرون . وكذلك تعجبه من تولية المرأة مقاليد الحكم والرئاسة أدركه وبيَّنه :}إني وجدت امرأة تملكهم{، واليوم يريد أشباه البشر من المنافقين زجَّ المرأة في الوزارات والقضاء بل ورئاسة الدول، وقد قال عليه الصلاة والسلام : (( لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة ))]رواه البخاري[ . قال المناوي في فيض القدير(5/386) : « " لن يفلح قوم ولوا " وفي رواية " ملكوا أمرهم امرأة " بالنصب على المفعولية وفي رواية " ولي أمرهم امرأة " بالرفع على الفاعلية؛ وذلك لنقصها وعجز رأيها، ولأن الوالي مأمور بالبروز للقيام بأمر الرعية والمرأة عورة لا تصلح لذلك، فلا يصحُّ أن تُولَّى الإمامة ولا القضاء » .
فكان في كلام الهدهد وإحاطته ابتلاء من الله عزَّ وجلَّ لسليمان عليه السلام، وتنبيهٌ على أنَّ في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علماً بما لم يحط به، لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر إليه علمه، ويكون لطفاً له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء وأعظم بها فتنة ] انظر تفسير الزمخشري(3/359)[ .
ولا شكَّ أنَّ هذا الخطاب الذي كافح به إنما جرأه عليه العلم، وإلا فالهدهد مع ضعفه لا يتمكن من خطابه لسليمان مع قوته بمثل هذا الخطاب لولا سلطان العلم، ومن هذا الحكاية المشهورة أنَّ بعض أهل العلم سُئل عن مسألة فقال : لا أعلمها، فقال أحد تلامذته : أنا أعلم هذه المسألة، فغضب الأستاذ وهمَّ به، فقال له أيها الأستاذ : لستَ أعلم من سليمان بن داود ولو بلغت في العلم ما بلغت، ولستُ أنا أجهل من الهدهد وقد قال لسليمان أحطت بما لم تحط به . فلم يعتب عليه ولم يُعنِّفه ] انظر مفتاح دار السعادة لابن القيِّم(1/173)[ .
فسَلِم الهدهد حين ألقى إلى سليمان هذا النبأ العظيم . وتعجب كيف خفي عليه هذا الأمر الجلل، فقال مثبتاً لكمال عقل الهدهد ورزانته : }سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين { . وفي هذا دليل على أنَّ الإمام يجب عليه أن يقبل عذر رعيَّته، ويدرأ العقوبة عنهم في ظاهر أحوالهم بباطن أعذارهم، وقد قبل عمر رضي الله عنه عذر النعمان بن عدي ولم يعاقبه . ولكن للإمام أن يمتحن ذلك إذا تعلَّق به حكم من أحكام الشريعة كما فعل سليمان عليه السلام مع الهدهد حيث تبيَّن له بعد ذلك صدق ما جاء به وبراءته من الكذب ]انظر تفسير القرطبي(13/189)، وتفسير السَّعدي(ص706) [ . ولعل صدقه هذا وحرصه على الدعوة إلى الخير وتوحيد الله وتسبُّبِه في إسلام ملكة سبأ وقومها، كان سبباً والله أعلم في النهي عن قتل بني جنسه، كما جاء ذلك من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : (( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل أربعٍ من الدواب، النملة والنحلة والهدهد والصُّرَد )) ]صححه الألباني في صحيح الجامع( 6968)، وانظر تفسير ابن كثير(6/169) [ .
وهكذا ينبغي أن تُحفظ وتُصان كرامة الدعاة الآمرين بالقسط وأهليهم ومن صلح من ذرِّياتهم . ولكن للأسف حالنا اليوم يشهد عكس ذلك من تضييق على الدعاة العاملين وتعذيبهم، بل وقتلهم في بعض البلاد والله المستعان، وقد قال تعالى :}إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (22){[آل عمران :21،22] .
أيها الأحبة..إنَّ من يتأمَّل ويمعن النظر في قصة سليمان عليه السلام والهدهد وما جاء فيها من أخبار ودلائل سيجد بلا شك الكثير من الفوائد والعبر والتي لو استقصيناها لطال بنا المقال، فحسبي منها هذه الشَّذرات التي نثرتها، لعلَّ الله عزَّ وجلَّ أن يبارك فيها وينفع بها، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
عبد الرحمن بن جار الله العجمي
لقد كان لسليمان عليه السلام رهبةً وهيبةً ومكانةً عند جنده بسبب حزمه ودقَّته في تنظيمهم، فلا يدع أمراً صغيراً كان أو كبيراً إلا قام هو بنفسه بالإشراف عليه وتصريفه . ويدلُّ على ذلك تفقده للطير وما دار بينه وبين الهدهد من نقاش واستجواب : }وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ)20( لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ)21( فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ)22( إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ)23( وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ)24( أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ)25( اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)26{( [النمل : 20-26] .
وقد اختلف المفسِّرون في سبب تفقده للطير على أقوال، منها : أنَّ الشمس دخلت من موضع الهدهد حين غاب، فكان ذلك سبب تفقد الطير ليعرف من أين دخلت الشمس . وقيل : ليدله الهدهد على مكان الماء تحت الأرض . وقيل : لينظر الحاضر منها والغائب ولزومها للمراكز والمواضع التي عيَّنها لها، وهذا هو ظاهر الآية ] انظر تفسير القرطبي(13/177)، وتفسير السَّعدي(ص705)[ . فلم يكتفِ عليه السلام بوزراءه ومساعديه في تسيير مهام مملكته؛ بل باشر هو بنفسه في ذلك . فانظر إلى الهدهد مع صغره كيف لم يخفَ على سليمان حاله، فكيف بعظام الملك . ويرحم الله عمر فإنه كان على سيرته، قال : لو أنَّ سخلة على شاطئ الفرات أخذها الذئب ليُسأل عنها عمر . فرضي الله عنه وأرضاه فقد كان من عادته تفقد أحوال رعيَّته، وأحوال أمرائه بنفسه ]انظر تفسير القرطبي(13/178) [ .
وهذه همسة مُحب في أذن كلِّ والد تهاون في تفقُّد أولاده وفرَّط؛ فلا أشغالك بأعظم من مشاغل سليمان، ولا أولادك بأكثر من جند سليمان، ومع ذلك قال : }ما لي لا أرى الهدهد{. قال عليه الصلاة والسلام : (( ألا كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيَّته، فالأمير الذي على الناس راعٍ وهو مسئول عن رعيَّته، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم، والعبد راعٍ على مال سيِّده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيَّته ))]متفق عليه[ .
والحاصل أنه لما تأكَّد عليه السلام من غياب الهدهد تغيَّظ عليه وتوعَّده، فما هو إلا وقت يسير حتى جاءه الهدهد فقال له : }أحطت بما لم تحط به{، أي : علمت ما لم تعلمه من الأمر . فكان في هذا ردٌّ على من قال إنَّ الأنبياء تعلم الغيب ]انظر تفسير القرطبي(13/181) [ . ثم سرد ما رآه في سياق جميل وعبارات موجزه تحوي معاني عظيمة . قال الشيخ عطية محمد سالم في تتمة أضواء البيان (8/8) : « ففي هذا السياق عشر قضايا يدركها الهدهد ويفصح عنها لنبي الله سليمان :
الأولى : إدراكه أنه أحاط بما لم يكن في علم سليمان .
الثانية : معرفته لسبأ بعينها دون غيرها، ومجيئه منها بنبأ يقين لا شكَّ فيه .
الثالثة : معرفته لتولية المرأة عليهم مع إنكاره ذلك عليهم .
الرابعة : إدراكه ما أوتيته سبأ من متاع الدنيا من كل شيء .
الخامسة : أنَّ لها عرشاً عظيماً .
السادسة : إدراكه ما هم عليه من السجود للشمس من دون الله .
السابعة : إدراكه أنَّ هذا شرك بالله تعالى .
الثامنة : أنَّ هذا من تزيين الشيطان لهم أعمالهم .
التاسعة : أنَّ هذا ضلال عن السَّبيل القويم .
العاشرة : أنَّهم لا يهتدون » .
فانظر إلى هذا الطائر الصغير كيف أدرك توحيد الله عزَّ وجلَّ وما يضاده بينما غفل عنه الكثيرون . وكذلك تعجبه من تولية المرأة مقاليد الحكم والرئاسة أدركه وبيَّنه :}إني وجدت امرأة تملكهم{، واليوم يريد أشباه البشر من المنافقين زجَّ المرأة في الوزارات والقضاء بل ورئاسة الدول، وقد قال عليه الصلاة والسلام : (( لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة ))]رواه البخاري[ . قال المناوي في فيض القدير(5/386) : « " لن يفلح قوم ولوا " وفي رواية " ملكوا أمرهم امرأة " بالنصب على المفعولية وفي رواية " ولي أمرهم امرأة " بالرفع على الفاعلية؛ وذلك لنقصها وعجز رأيها، ولأن الوالي مأمور بالبروز للقيام بأمر الرعية والمرأة عورة لا تصلح لذلك، فلا يصحُّ أن تُولَّى الإمامة ولا القضاء » .
فكان في كلام الهدهد وإحاطته ابتلاء من الله عزَّ وجلَّ لسليمان عليه السلام، وتنبيهٌ على أنَّ في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علماً بما لم يحط به، لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر إليه علمه، ويكون لطفاً له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء وأعظم بها فتنة ] انظر تفسير الزمخشري(3/359)[ .
ولا شكَّ أنَّ هذا الخطاب الذي كافح به إنما جرأه عليه العلم، وإلا فالهدهد مع ضعفه لا يتمكن من خطابه لسليمان مع قوته بمثل هذا الخطاب لولا سلطان العلم، ومن هذا الحكاية المشهورة أنَّ بعض أهل العلم سُئل عن مسألة فقال : لا أعلمها، فقال أحد تلامذته : أنا أعلم هذه المسألة، فغضب الأستاذ وهمَّ به، فقال له أيها الأستاذ : لستَ أعلم من سليمان بن داود ولو بلغت في العلم ما بلغت، ولستُ أنا أجهل من الهدهد وقد قال لسليمان أحطت بما لم تحط به . فلم يعتب عليه ولم يُعنِّفه ] انظر مفتاح دار السعادة لابن القيِّم(1/173)[ .
فسَلِم الهدهد حين ألقى إلى سليمان هذا النبأ العظيم . وتعجب كيف خفي عليه هذا الأمر الجلل، فقال مثبتاً لكمال عقل الهدهد ورزانته : }سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين { . وفي هذا دليل على أنَّ الإمام يجب عليه أن يقبل عذر رعيَّته، ويدرأ العقوبة عنهم في ظاهر أحوالهم بباطن أعذارهم، وقد قبل عمر رضي الله عنه عذر النعمان بن عدي ولم يعاقبه . ولكن للإمام أن يمتحن ذلك إذا تعلَّق به حكم من أحكام الشريعة كما فعل سليمان عليه السلام مع الهدهد حيث تبيَّن له بعد ذلك صدق ما جاء به وبراءته من الكذب ]انظر تفسير القرطبي(13/189)، وتفسير السَّعدي(ص706) [ . ولعل صدقه هذا وحرصه على الدعوة إلى الخير وتوحيد الله وتسبُّبِه في إسلام ملكة سبأ وقومها، كان سبباً والله أعلم في النهي عن قتل بني جنسه، كما جاء ذلك من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : (( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل أربعٍ من الدواب، النملة والنحلة والهدهد والصُّرَد )) ]صححه الألباني في صحيح الجامع( 6968)، وانظر تفسير ابن كثير(6/169) [ .
وهكذا ينبغي أن تُحفظ وتُصان كرامة الدعاة الآمرين بالقسط وأهليهم ومن صلح من ذرِّياتهم . ولكن للأسف حالنا اليوم يشهد عكس ذلك من تضييق على الدعاة العاملين وتعذيبهم، بل وقتلهم في بعض البلاد والله المستعان، وقد قال تعالى :}إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (22){[آل عمران :21،22] .
أيها الأحبة..إنَّ من يتأمَّل ويمعن النظر في قصة سليمان عليه السلام والهدهد وما جاء فيها من أخبار ودلائل سيجد بلا شك الكثير من الفوائد والعبر والتي لو استقصيناها لطال بنا المقال، فحسبي منها هذه الشَّذرات التي نثرتها، لعلَّ الله عزَّ وجلَّ أن يبارك فيها وينفع بها، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
عبد الرحمن بن جار الله العجمي