بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
أطلقت إحدى الشخصيات العلمانية السعودية تغريدة على موقع (التوتير) قبل يومٍ تقريبًا قالت فيها: "أنا أرضى بالعدل والحرية والمساواة تحت أي مسمى".
أجده من المناسب جدًا أن أفتتح مقالي بهذه المقولة الجوهرية التي تختصر مساحات شاسعة وصفحات عديدة للتعبير عما يريده الليبرالي المستلب أو التنويري المقهور.
أعتقد أنَّ سيادة الواقع، المحكوم بالقهر والغلبة والظلم واستلاب الحقوق، هو العامل الأساس في الضغط على عقول فئة من العقول الشابة الذكية والنابهة للبحث عن مخرجٍ سريع من هذا الواقع، وربما لأن النماذج والأمثلة الدينية المعاصرة التي يعرفونها لا تسمح باستنباط ملامح ذلك المخرج، لذا وجدوا أنَّ الحرية هي الحل الناجع والمثالي للخروج من واقع القهر والغلبة والأثرة. ولأنَّ هذا الحل هو الحل الوحيد -في نظرهم- فكان ولا بد من إلتزام لوازمه ومقتضياته وفق مبدأ "تحت أي مسمى".
ولا بد أن يتنبه المصلحون وعلى رأسهم علماء الشريعة أنَّ القهر يولد قناعات جديدة، واعتقادات حادثة، وهذه الاعتقادات تجر بدورها التزامات أخرى، وهكذا يجد الإنسان نفسه مضطرًا للالتزام بها حتى لا يخسر المبدأ الذي قرره، ليجد نفسه في نهاية المطاف محاطًا بتصورات مخالفة لما كان عليه في أول الأمر.
وهذا التأثر ليس وليدة العصر الحاضر، بل هو وليدة كل عصر يكون فيه الإنسان تحت ضغطٍ ما. ففي القرنين الهجريين الأول والثاني نجد أنَّ جملة من الأذكياء والعقلاء ، الذين كانوا مدفوعين بحمى النضال عن الإسلام تجاه خصومه من أبناء المِلَل والنِحَل الأخرى، وجدوا أنفسهم مُلزمين بمجموعة مبادئ لا بد لهم من التزامها إن أرادوا المضي قُدمًا في نضالهم "العظيم". فمن أجل إبطال معتقدات الخصوم لا بد وأن يبطلوا مجموعة من الأمور منها على سبيل المثال: "قضية التقليد"، حيث قرروا أنه لا يُعرف بالتقليد الحق أو الباطل، ولأجل إلزام الخصوم بذلك التزموا بهذا المبدأ، فآل أمرهم -كما يقول الحافظ ابن حجر- إلى تكفير من قلد الرسول في معرفة الله تعالى، ولزمهم القول بعدم إيمان أكثر المسلمين.
ومن أخطر العوامل الواقعية التي يمكن أن تُولد عقائد جديدة "العامل السياسي"، حتى قيل إن "مذهب القدرية" كان أشبه بالمعارضة السياسية التي تشكلت كحركة مضادة للدولة المستبدة. ومثله قد يُقال عن "مذهب الجبرية" أو "المرجئة" أنها أيضًا حركات جاءت نتيجة ضغط الواقع لكن في اتجاهٍ عكسي. الخلاصة هنا هي أن العقول الذكيَّة المضطربة -على وجه الخصوص- تريد أن تتحرر من قهر الواقع بما تراه مناسبًا و"تحت أي مسمى".
وإذا أردنا أن نذهب أبعد من ذلك، من باب "لتتبعن سنن من كان قبلكم"، فسوف نجد أن التاريخ السياسي-الديني للمسيحية قد يُقارب ما حصل ويحصل بين المسلمين. فقد كانت "الكنيسة"، كممثلٍ رسمي وواجهة دينية للدين المسيحي، تخوض حرباً شرسةً مع الإلحاد والهرطقة التي أخذت في الانتشار في أرجاء أوروبا. لكن بسبب ممارسات خاطئة واعتقادات ضالة دخلت الكنيسة في عصر "الأزمات الداخلية" أي بين رجال الدين أنفسهم، وبشكل أدق بين طائفة الإصلاحيين الجدد، والحرس القديم للكنيسة!
لم يعد ممكنًا إنكار الخلل العقدي والمنهجي والسلوكي "للكنسية"، ليس من نظرة إسلامية بل من نظرة نقدية مسيحية داخلية، فبدأت تظهر حركات نقدية وتصحيحية تركز بشكل أساسي على الخلل السلوكي الذي كان يمارسه رجال الدين والباباوات. فكانت الاعتراضات تتركز على بيع وشراء ترقيات الكنيسة، ومناصبها، وغنى رجال الدين الفاحش، وإقطاعيات الكنيسة، وبقية المخازي السلوكية المادية والأخلاقية، فكان موقف الكنيسة واضحًا وهو الحرمان من حقوق الكنيسة لمن يتعرض لمخازيها بالنقد، ولم تكن "الكنيسة" راغبة في قبول دعوة التصحيح والإصلاح والتجديد، ولمواجهة الخطر قام تحالف بين "الكنيسة" و"الملوك"، أي تحالف بين الإقطاعيين لمواجهة حركة التمرد والنقد الديني والشعبي.
ونتيجة طبيعة لذلك زاد النقد، وظهرت حركات تصحيحية كثيرة أخرى، منها المؤمن ومنها المتشكك ومنها الحركات الإلحادية. وما إن ظهر "مارتن لوثر" حتى تلقت الكنيسة الضربة الكبرى على يده وعلى يد "جون كالفن"، وحدث أن تحالفت الحركة الإصلاحية مع بعض الملوك ضد الكنيسة، وأراد هؤلاء الملوك أن يستقل بسيادته عن سيادة الكنيسة وعن سلطة بقية الملوك، ووجد بعض الإصلاحيين الأمر أسهل حينما تحالفوا من الملكيات ضد المرجعية الدينية، فمثل لهم ملاذً آمن وفرصة عظيمة لضرب الأسس الفلسفية والدينية للنظام الإقطاعي، وهذا ما لم تدركه الملكيات آنذاك.
لم يكن بكل تأكيد "مارتن لوثر" ملحدًا أو مهرطقًا أو متشككًا، بل كان مؤمنًا قسيسًا متشددًا إلى أبعد الحدود، ولذا لم يكن يتخيل أن حركته الإصلاحية فيما بعد ستكون إحدى الأسس التي سوف تشيد العلمانية الملحدة صرحها عليها. وهذا ينسحب أيضًا على مجموعة من الأذكياء، الذين يمكن أن يحسبوا على المؤمنين مثل: "رينيه ديكارت" و"ليبتز" و"إيمانويل كانط"، الذين كانوا يراقبون بقلق هذا الصراع، بين القديم والجديد، فحاولوا التدخل للإصلاح، وصنع منهجٍ وسطي يصلح أن يكون جسراً يردم الهوة بين هؤلاء جميعاً، فحاول الجمع بين منهج العقلانيين والكنسيين، وذلك من أجل الحفاظ على الإيمان بصورة وسطية تنويرية!
لكن محاولتهم الصادقة والبريئة تلك كانت بكل جدارة الضربة الأخيرة للكنيسة، فجاءت ضربة التغيير من داخل الكنيسة لا من خارجها.
هذا التاريخ الكنسي يُحاول البعض جره إلى البيئة الإسلامية، ومن خلال محاولة صناعة أو تبني "عمائم ليبرالية" تنشط بفعاليَّة من داخل أسوار الدين، ولذا ليس من المستغرب أن يقول الدكتور "جورج طرابيشي": "ليس لنا أن نتصور فولتيراً عربياً بدون لوثر مسلم"!، فهو يربط -بشكل له مغزى خطير- بين التاريخ الكنسي وما يجب أن يُكرر في الدين الإسلامي. خصوصًا إذا عرفنا أن الدكتور "طرابيشي" دعاء بكل صراحة إلى علمنة الإسلام مثل المسيحية بواسطة إعادة قراءة التراث الإسلامي الديني من خلال عيون عَلمانية، أي من خلال "مذبحة التراث". فهؤلاء -كطرابيشي وأمثاله- يريدون بكل وضوح تطبيق المقولة المنسوبة "لجمال الدين الأفغاني" القائلة: "لن يقطع عنق الدين إلا بسيف الدين نفسه"!
وهذا قد لا ينطبق على كثير من الأخوة الفضلاء الذين يُسمون بالتنويريين، حيث إن دافعهم هو الغيرة على الدين والشغف بالحرية والعقل والحقوق، لكن تضخمت قضية "الحرية" بشكل كبير ومفزع، بسبب تضخم القهر واستلاب الحقوق، حتى التزموا جعل الشريعة أو "تطبيق الشريعة" محكومة بــ "صندوق الاقتراع" وفق مبدأ "سيادة الأمة".
فما هو مبدأ "سيادة الأمة" المقدم على "سيادة الشريعة"؟
هل يُمكن القول إن المقصود بـ "سيادة الأمة"، الذي يحكم "سيادة الشريعة"، هو اختيار الأمة بكاملها، أي توافق كل أفرادها على شيءٍ ما؟ لا أظن عاقلاً يمكنه أن يزعم ذلك، فلا يُمكن بحال أن تتفق أمة من الأمة بكل أفرادها على أمرٍ ما حتى ولو كان من أعظم الأصول، وهذا أمرٌ بدهي. وإنني أزعم أنه لو طرح موضوع "الإيمان وجود الله" في "صندوق الاقتراع" في السعودية على وجه التحديد فلا أظن أن تكون النتيجة 100%.
إذن، المقصود من "سيادة الأمة"، وهو "سيادة الأكثرية" أي اختيار الأكثرية، وأن تقوم السيادة على مبدأ اعتبار الأكثرية في تقرير الشرعية، فالشرعية ذاتية في "الناس الأكثر"، و"الشريعة" هي الممنوحة الشرعية بواسطة "الأمة" أو بالأصح -علميًا وواقعيًا- بواسطة الأكثرية. وهذا حكم تقريري بانعدام الشرعية الذاتية "للشريعة" أو "لحكم الله"، وانتقلت "الشرعية" أو "السيادة" لمجموعة من الناس يُسمون "الأكثرية".
و"مبدأ الأكثرية" مبدأ سياسي يُشير إلى فوز مجموعة أو تكتل "مهما كان" بأكثر من نصف أصوات النـاخبين، أو بتعبير آخر، "مبدأ الأكثرية" أو "السيادة" هي نفس "مبدأ الغلبة" لكن بواسطة الاقتراع. وهو مبدأ قديم عرفه اليونان وأشار إليه "أرسطو"، ونصَّ "جان جاك روسو" أنَّ "الأكثرية" ملزمة للآخرين.
هذا المبدأ "الأكثرية" يقوم على إدعاء الحق في إعطاء صفة الحق والصواب لمبدأ العدد؛ لمجرد أنه عدد، فما يقره العدد الأكثر يصبح هو الحق والصواب والحقيقة، وهذا بلا شك مخالفة صريح للإسلام الذي لا يعتبر بمسألة العدد أو "الأكثرية" في مسألة تحديد الأمور القطعية أو تحديد ماهية الحق أو الصواب والحقيقة، فضلا عن تقرير قبول الشريعة أو رفضها. قال تعالى: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله).
وإنه من الصعوبة -على الأقل بالنسبة إليَّ- فهم قول القائل الفاضل: "فإن اختارت الأمة منظومة القيم والمبادئ الإسلامية كمرجعية عليا وإطارا للتشريع والقوانين فلا يحق لأحد أن يفتئت عليها أو يفرض ما يناقض ويعارض مرجعيتها الدستورية. وإن اختارت شيئا آخر غير المرجعية الإسلامية؛ فيجب احترام خيارها ولا يجوز قهرها وإجبارها بشيء لا تؤمن به، لأنه لا خير في قيم ومبادئ لا تؤمن بها الشعوب ولا تتمثلها وتطبّقها إلا خوفا ونفاقا وتقيّة".
ثم قوله بعد ذلك مباشرة: "لا يعني أن الشعب هو معيار المبادئ والقيم والأخلاق كما يتصور البعض. بل المعيار من حيث المنطق المعرفي هو المرجعية التي يؤمن بها الإنسان سواء كانت دينية عقدية/ أو فلسفية وضعية، ومعرفة الحلال والحرام في الإسلام لا يكون من خلال الاستفتاء الشعبي وإنما من خلال مصادر التشريع في الإسلام وعلى رأسها الكتاب والسنة".
حقيقة أجد صعوبة بالغة في رؤية التوافق بين التقريرين السابقين، ففي الأول "الأكثرية" هي من تعطي الشرعية لمنظومة القيم الإسلامية بل للشريعة نفسها، أي بكل وضوح "الأكثرية" هي معيار شرعية الأخلاق والقوانين والقيم. لكن في التقرير الثاني "الأكثرية" ليست هي معيار المبادئ والقيم والأخلاق! حقيقة احتاج إلى مساعدة لفهم كيفية التوافق بين هذين التقريرين.
فإذا كانت الأمة لها الحرية والحق في اختيار الشريعة [منظومة القيم والمبادئ الإسلامية كمرجعية عليا وإطارا للتشريع والقوانين] أو نبذها، فكيف لا يكون "الشعب هو معيار المبادئ والقيم والأخلاق"؟! وهو نفسه المعيار في تحديد المرجعية نفسها، وهي مرجعية الأخلاق والقانون! وحينما يُقال: إن "معرفة الحلال والحرام في الإسلام لا تكون من خلال الاستفتاء الشعبي وإنما من خلال مصادر التشريع في الإسلام وعلى رأسها الكتاب والسنة". فما المقصود من هذا الكلام؟ نحن بين خيارين اثنين: الأول: أن يكون هذا الكلام مجرد محاولة تعريف القارئ أنَّ الحلال والحرام في الإسلام يكون من خلال الكتاب والسنة، وهذا في الحقيقة تعريف للمعروف لا فائدة منه. والثاني: أن يكون الكلام تقريرًا لكون الاستفتاء الشعبي ليس مصدرًا للحلال والحرام عند المسلمين أنفسهم، ومن ثمة فلا يجوز للأمة أن تختار منظومة القيم والمبادئ المخالفة للإسلام كمرجعية عليا وإطارا للتشريع والقوانين. فإذا تقرر هذا فقد نُقض الكلام كله ومن أساسه!
إنَّ القوانين إنما تصدر في أغراضها وغاياتها عن القيم والمبادئ الأخلاقية، فمحيط القانون جزء من محيط الأخلاق، أو كما أوضح "مونتيسكيو" في كتابه "روح القوانين" أن الشرائع في كل مجتمع وليدة عاداته وهي مصدره. فالقوانين تأتي لتنقل القيمة أو الخلق إلى حيز التنفيذ أو الاحترام أو الاعتبار. وعليه، فإن من شرَّعَ قانوناً يحرِّمُ أمراً ما، فمن المفترض أنه يفعل هذا لأنه رأى هذا الأمر قبيحاً يستحق الحظر والمنع. فمن هنا صار الذي يعلق التشريعات على نتائج التصويت قد أعطى الناسِ حقَّ التحريم والتحليل، وجعلهم هم المرجع في تعيين الحلال والحرام على مستوى الجماعة.
إن مبدأ "سيادة الأمة" ليس مبدأ إسلاميًا من الأساس، بل هو من مبادئ الأنظمة الوضعية التي أعطت "الحاكمية العليا" "للأمة=الأكثرية"، وهذا ما يتصادم مع الإسلام. ولما لم تكن أوروبا المسيحية محكومة "بسيادة الشريعة"، فقد كانت محكومة "بسيادة الكنيسة" أو"سيادة الملكيات"، والجميع يدعي الحكم باسم "الحق الإلهي"، فما كان من الشعوب الأوروبية إلا أن استبدلت ذلك بسيادتها على نفسها، وأعطت نفسها صفة الحاكمية المطلقة، فهم الذين يُقررون ويشرعون القوانين، وهم معيار ما هو خُلقي وما هو غير خُلقي، فالشذوذ مثلاً كان غير شرعي لكن الشعب قرر أن يجعله مباحًا فكان مُباحًا، فصار الشعب هو الشريعة.
هذا الواقع الأوروبي المبهر صار له ضحايا من المسلمين، وأصبحوا مرتهنين لمنظمة المفاهيم الغربية، وأصبحت قراءة المراجع الدينية تتم بعيون غربية، حتى يُخيل إليك وأنت تقرأ ما سرد بعضهم من الآيات للتدليل على "سيادة الأمة" وكأنك تقرأ كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبدالرازق وهو يُقرر أنه لا يوجد في الإسلام نظام سياسي للحكم!
قهر الواقع بالإضافة إلى الانبهار بالغرب والنموذج الغربي "أدى إلى هزيمة عقل الأمة ومن العقول المهزومة ظهر فريق يحاول أن يتحد مع المنتصر ويتبنى حضارة الغرب...كانت الصدمة سببا في الالتحاق بالغرب ونقل قيمه وأفكاره ونموذج حياته، وكانت الدعوة للحرية الغربية تجد طريقها لدى النخبة المثقفة"، كما يقول المفكر المسيحي المصري "رفيق حبيب".
إن أخشى ما أخشاه على هؤلاء الأخوة الفضلاء أن يكون الحق السياسي والإنساني دافعًا لهم، من حيث لا يشعر بعضهم، إلى تحطيم الشريعة، وتكرار ما حصل بشكل متكرر في تاريخنا الإسلامي بل والإنساني، وذلك من خلال لجوء الإنسان المقهور إلى تحطيم أقل العدوين خطرًا عليه، المرجعية الدينية لا السلطة السياسية. فهو لا يمتلك الشجاعة الكافية لمواجهة السلطة السياسية، فيتوجه بسهامه إلى المرجعية الدينية بل للشريعة نفسها، تحت أسماء مختلفة مثل: السلفية، أهل السنة والجماعة، تطبيق الشريعة.
ثم يجعل هدفه الأول، أو سمه التكتيكي، نقض وتفكيك المرجعية الشرعية التي تُعطي -كما يزعم- السلطة السياسية القاهرة الشرعية الإلهية، ففي هذه المرحلة، كما صرح البعض، يجب التوجه لتفكيك ونقد ونقض السلفية كإطار مرجعي شرعي، أما السلطة السياسية فلا يشملها الآن التفكيك، لأنه كما يُقال فكك الإطار وسوف تسقط الصورة حتمًا. لكن ماذا لو كانت النتيجة تحطيم الإطار ثم بقاء الصورة منحوتة على الجدار!
إن العاقل يفهم لماذا أصبحت "سيادة الأمة" هي السلطة العليا في الغرب، فالغرب يفصل بين الدين والدولة، فلا بد حينئذ من أقرار سيادة الشعب، إذ أن الدولة ليست دينية ولا محكومة بشريعة الله. لكن الدولة المسلمة مهمتها هي حراسة الدين وحراسة الشريعة، لا تخيير الشعب أو الاستناد إلى اختياره في تقرير شرعية أو عدم شرعية الشريعة.
في مبدأ "سيادة الأمة" تكون الأمة أو "الأكثرية" هي السلطة العليا التي لا تعرف سلطة أعلى منها، حتى الشريعة نفسها، فلو قررت الأكثرية إباحة المحرمات وتحريم الحلال، بل نبذ الشريعة جملة وتفصيلاً فلها الحق في ذلك، فهي السلطة العليا ولا يوجد أعلى منها. أو كما عبر أحد الفضلاء من أنصار مبدأ "سيادة الأمة" بكل وضوح أنه إذا "اختارت الأمة غير المرجعية الإسلامية؛ فيجب احترام خيارها ولا يجوز قهرها وإجبارها".
وفي الأنظمة السياسية الوضعية تكون الصفة الأصلية للسيادة هي سلطة وضع القوانين، أي التشريع، ولا يُمكن أن يُفرض عليها أي التزامات من قبل أي سلطة، ولذا لا يُمكن أن يكون هناك أكثر من سيادة، والسيادة لا تقبل التجزئة، فالسلطة العليا واحدة، وهي أيضًا غير قابلة للتنازل، فلا يحق لصاحبها أن يتنازل عنها. وأظن أن بعض الذين يرون "سيادة الأمة" خلطوا بين السيادة كسلطة عليا لا شيء فوقها، وبين بعض مهام الأمة السياسية في الإسلام، فطردوا سلطة "سيادة الأمة" حتى جعلوها-دون مبالغة- نفس سلطة الله سبحانه وتعالى في التشريع.
إن الأمة ليست حرة بمجموعها أو بإفرادها بل الجميع مقيد بأحكام الشريعة لا يسعه الخروج عنها فضلا أن يجعل الشريعة محلا للاقتراع. فالشريعة حاكمة على المسلم فردًا أو دولة لا يسع أحد منهم سن قانون يُخالفها فضلاً عن أن يطرحها بالكلية!
قال الحق سبحانه وتعالى: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) أي أن السلطة العليا والسيادة هي لحكم الله، وقال: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) أي المرجع السيادي لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يقل سبحانه فحكمه إلى الشعب أو "سيادة الأمة"، ولم يقل ردوه إلى "سيادة الأمة"، فضلاً أن يقول سبحانه وتعالى إذا "اختارت أمتكم غير كتابي وسنة نبيي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فيجب احترام خيارها ولا يجوز قهرها وإجبارها".
في الختام، هذه كلمة موجهة للعلماء وطلاب العلم للالتفات إلى أهمية هذه المواضيع وخطورة الواقع وما يفرزه على الشباب والنابهين، وهذا يحتم على العلماء وطلاب العلم أن يتصدر اهتمامهم هذا الموضوع دراسة وتحليلا وتقييم ونقدًا، فأثمن ما لدى المسلم هو شريعة الإسلام، وهي مقدمة على أي مصلحة دنيوية، وإذا لم يوجد من العلماء وطلاب العلم من يتصدى بعلم وحكمة لمثل هذه المواضيع فإن الوضع خطر، وهو كما قال "ابن قيم الجوزية" أنه حينما تنزل بالأمة فتن عقائدية أو فكرية ولم يجدوا من العلماء فكرًا أو سيرة يتخذونه نموذجًا، فإن أذكياء الأمة قد يصبحون زنادقة.
وحقيقة لا بد من الاعتراف بها هنا، وهي أنه بسبب قهر الواقع واستلاب الحقوق والظلم وعدم وجود نماذج دينية نزيهة كافية، فإنَّ أعداد الشباب الذين لديهم الاستعداد "لقبول العدل والحرية والمساواة تحت أي مسمى" تزداد، وأصبحت "الحرية" و"العدالة" و"المساواة" الثالوث المقدسة لدى بعضهم، وهي مقدمة على الشريعة نفسها، والله المستعان.
قال تعالى: (وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك).
الشيخ عايض الدوسري
أطلقت إحدى الشخصيات العلمانية السعودية تغريدة على موقع (التوتير) قبل يومٍ تقريبًا قالت فيها: "أنا أرضى بالعدل والحرية والمساواة تحت أي مسمى".
أجده من المناسب جدًا أن أفتتح مقالي بهذه المقولة الجوهرية التي تختصر مساحات شاسعة وصفحات عديدة للتعبير عما يريده الليبرالي المستلب أو التنويري المقهور.
أعتقد أنَّ سيادة الواقع، المحكوم بالقهر والغلبة والظلم واستلاب الحقوق، هو العامل الأساس في الضغط على عقول فئة من العقول الشابة الذكية والنابهة للبحث عن مخرجٍ سريع من هذا الواقع، وربما لأن النماذج والأمثلة الدينية المعاصرة التي يعرفونها لا تسمح باستنباط ملامح ذلك المخرج، لذا وجدوا أنَّ الحرية هي الحل الناجع والمثالي للخروج من واقع القهر والغلبة والأثرة. ولأنَّ هذا الحل هو الحل الوحيد -في نظرهم- فكان ولا بد من إلتزام لوازمه ومقتضياته وفق مبدأ "تحت أي مسمى".
ولا بد أن يتنبه المصلحون وعلى رأسهم علماء الشريعة أنَّ القهر يولد قناعات جديدة، واعتقادات حادثة، وهذه الاعتقادات تجر بدورها التزامات أخرى، وهكذا يجد الإنسان نفسه مضطرًا للالتزام بها حتى لا يخسر المبدأ الذي قرره، ليجد نفسه في نهاية المطاف محاطًا بتصورات مخالفة لما كان عليه في أول الأمر.
وهذا التأثر ليس وليدة العصر الحاضر، بل هو وليدة كل عصر يكون فيه الإنسان تحت ضغطٍ ما. ففي القرنين الهجريين الأول والثاني نجد أنَّ جملة من الأذكياء والعقلاء ، الذين كانوا مدفوعين بحمى النضال عن الإسلام تجاه خصومه من أبناء المِلَل والنِحَل الأخرى، وجدوا أنفسهم مُلزمين بمجموعة مبادئ لا بد لهم من التزامها إن أرادوا المضي قُدمًا في نضالهم "العظيم". فمن أجل إبطال معتقدات الخصوم لا بد وأن يبطلوا مجموعة من الأمور منها على سبيل المثال: "قضية التقليد"، حيث قرروا أنه لا يُعرف بالتقليد الحق أو الباطل، ولأجل إلزام الخصوم بذلك التزموا بهذا المبدأ، فآل أمرهم -كما يقول الحافظ ابن حجر- إلى تكفير من قلد الرسول في معرفة الله تعالى، ولزمهم القول بعدم إيمان أكثر المسلمين.
ومن أخطر العوامل الواقعية التي يمكن أن تُولد عقائد جديدة "العامل السياسي"، حتى قيل إن "مذهب القدرية" كان أشبه بالمعارضة السياسية التي تشكلت كحركة مضادة للدولة المستبدة. ومثله قد يُقال عن "مذهب الجبرية" أو "المرجئة" أنها أيضًا حركات جاءت نتيجة ضغط الواقع لكن في اتجاهٍ عكسي. الخلاصة هنا هي أن العقول الذكيَّة المضطربة -على وجه الخصوص- تريد أن تتحرر من قهر الواقع بما تراه مناسبًا و"تحت أي مسمى".
وإذا أردنا أن نذهب أبعد من ذلك، من باب "لتتبعن سنن من كان قبلكم"، فسوف نجد أن التاريخ السياسي-الديني للمسيحية قد يُقارب ما حصل ويحصل بين المسلمين. فقد كانت "الكنيسة"، كممثلٍ رسمي وواجهة دينية للدين المسيحي، تخوض حرباً شرسةً مع الإلحاد والهرطقة التي أخذت في الانتشار في أرجاء أوروبا. لكن بسبب ممارسات خاطئة واعتقادات ضالة دخلت الكنيسة في عصر "الأزمات الداخلية" أي بين رجال الدين أنفسهم، وبشكل أدق بين طائفة الإصلاحيين الجدد، والحرس القديم للكنيسة!
لم يعد ممكنًا إنكار الخلل العقدي والمنهجي والسلوكي "للكنسية"، ليس من نظرة إسلامية بل من نظرة نقدية مسيحية داخلية، فبدأت تظهر حركات نقدية وتصحيحية تركز بشكل أساسي على الخلل السلوكي الذي كان يمارسه رجال الدين والباباوات. فكانت الاعتراضات تتركز على بيع وشراء ترقيات الكنيسة، ومناصبها، وغنى رجال الدين الفاحش، وإقطاعيات الكنيسة، وبقية المخازي السلوكية المادية والأخلاقية، فكان موقف الكنيسة واضحًا وهو الحرمان من حقوق الكنيسة لمن يتعرض لمخازيها بالنقد، ولم تكن "الكنيسة" راغبة في قبول دعوة التصحيح والإصلاح والتجديد، ولمواجهة الخطر قام تحالف بين "الكنيسة" و"الملوك"، أي تحالف بين الإقطاعيين لمواجهة حركة التمرد والنقد الديني والشعبي.
ونتيجة طبيعة لذلك زاد النقد، وظهرت حركات تصحيحية كثيرة أخرى، منها المؤمن ومنها المتشكك ومنها الحركات الإلحادية. وما إن ظهر "مارتن لوثر" حتى تلقت الكنيسة الضربة الكبرى على يده وعلى يد "جون كالفن"، وحدث أن تحالفت الحركة الإصلاحية مع بعض الملوك ضد الكنيسة، وأراد هؤلاء الملوك أن يستقل بسيادته عن سيادة الكنيسة وعن سلطة بقية الملوك، ووجد بعض الإصلاحيين الأمر أسهل حينما تحالفوا من الملكيات ضد المرجعية الدينية، فمثل لهم ملاذً آمن وفرصة عظيمة لضرب الأسس الفلسفية والدينية للنظام الإقطاعي، وهذا ما لم تدركه الملكيات آنذاك.
لم يكن بكل تأكيد "مارتن لوثر" ملحدًا أو مهرطقًا أو متشككًا، بل كان مؤمنًا قسيسًا متشددًا إلى أبعد الحدود، ولذا لم يكن يتخيل أن حركته الإصلاحية فيما بعد ستكون إحدى الأسس التي سوف تشيد العلمانية الملحدة صرحها عليها. وهذا ينسحب أيضًا على مجموعة من الأذكياء، الذين يمكن أن يحسبوا على المؤمنين مثل: "رينيه ديكارت" و"ليبتز" و"إيمانويل كانط"، الذين كانوا يراقبون بقلق هذا الصراع، بين القديم والجديد، فحاولوا التدخل للإصلاح، وصنع منهجٍ وسطي يصلح أن يكون جسراً يردم الهوة بين هؤلاء جميعاً، فحاول الجمع بين منهج العقلانيين والكنسيين، وذلك من أجل الحفاظ على الإيمان بصورة وسطية تنويرية!
لكن محاولتهم الصادقة والبريئة تلك كانت بكل جدارة الضربة الأخيرة للكنيسة، فجاءت ضربة التغيير من داخل الكنيسة لا من خارجها.
هذا التاريخ الكنسي يُحاول البعض جره إلى البيئة الإسلامية، ومن خلال محاولة صناعة أو تبني "عمائم ليبرالية" تنشط بفعاليَّة من داخل أسوار الدين، ولذا ليس من المستغرب أن يقول الدكتور "جورج طرابيشي": "ليس لنا أن نتصور فولتيراً عربياً بدون لوثر مسلم"!، فهو يربط -بشكل له مغزى خطير- بين التاريخ الكنسي وما يجب أن يُكرر في الدين الإسلامي. خصوصًا إذا عرفنا أن الدكتور "طرابيشي" دعاء بكل صراحة إلى علمنة الإسلام مثل المسيحية بواسطة إعادة قراءة التراث الإسلامي الديني من خلال عيون عَلمانية، أي من خلال "مذبحة التراث". فهؤلاء -كطرابيشي وأمثاله- يريدون بكل وضوح تطبيق المقولة المنسوبة "لجمال الدين الأفغاني" القائلة: "لن يقطع عنق الدين إلا بسيف الدين نفسه"!
وهذا قد لا ينطبق على كثير من الأخوة الفضلاء الذين يُسمون بالتنويريين، حيث إن دافعهم هو الغيرة على الدين والشغف بالحرية والعقل والحقوق، لكن تضخمت قضية "الحرية" بشكل كبير ومفزع، بسبب تضخم القهر واستلاب الحقوق، حتى التزموا جعل الشريعة أو "تطبيق الشريعة" محكومة بــ "صندوق الاقتراع" وفق مبدأ "سيادة الأمة".
فما هو مبدأ "سيادة الأمة" المقدم على "سيادة الشريعة"؟
هل يُمكن القول إن المقصود بـ "سيادة الأمة"، الذي يحكم "سيادة الشريعة"، هو اختيار الأمة بكاملها، أي توافق كل أفرادها على شيءٍ ما؟ لا أظن عاقلاً يمكنه أن يزعم ذلك، فلا يُمكن بحال أن تتفق أمة من الأمة بكل أفرادها على أمرٍ ما حتى ولو كان من أعظم الأصول، وهذا أمرٌ بدهي. وإنني أزعم أنه لو طرح موضوع "الإيمان وجود الله" في "صندوق الاقتراع" في السعودية على وجه التحديد فلا أظن أن تكون النتيجة 100%.
إذن، المقصود من "سيادة الأمة"، وهو "سيادة الأكثرية" أي اختيار الأكثرية، وأن تقوم السيادة على مبدأ اعتبار الأكثرية في تقرير الشرعية، فالشرعية ذاتية في "الناس الأكثر"، و"الشريعة" هي الممنوحة الشرعية بواسطة "الأمة" أو بالأصح -علميًا وواقعيًا- بواسطة الأكثرية. وهذا حكم تقريري بانعدام الشرعية الذاتية "للشريعة" أو "لحكم الله"، وانتقلت "الشرعية" أو "السيادة" لمجموعة من الناس يُسمون "الأكثرية".
و"مبدأ الأكثرية" مبدأ سياسي يُشير إلى فوز مجموعة أو تكتل "مهما كان" بأكثر من نصف أصوات النـاخبين، أو بتعبير آخر، "مبدأ الأكثرية" أو "السيادة" هي نفس "مبدأ الغلبة" لكن بواسطة الاقتراع. وهو مبدأ قديم عرفه اليونان وأشار إليه "أرسطو"، ونصَّ "جان جاك روسو" أنَّ "الأكثرية" ملزمة للآخرين.
هذا المبدأ "الأكثرية" يقوم على إدعاء الحق في إعطاء صفة الحق والصواب لمبدأ العدد؛ لمجرد أنه عدد، فما يقره العدد الأكثر يصبح هو الحق والصواب والحقيقة، وهذا بلا شك مخالفة صريح للإسلام الذي لا يعتبر بمسألة العدد أو "الأكثرية" في مسألة تحديد الأمور القطعية أو تحديد ماهية الحق أو الصواب والحقيقة، فضلا عن تقرير قبول الشريعة أو رفضها. قال تعالى: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله).
وإنه من الصعوبة -على الأقل بالنسبة إليَّ- فهم قول القائل الفاضل: "فإن اختارت الأمة منظومة القيم والمبادئ الإسلامية كمرجعية عليا وإطارا للتشريع والقوانين فلا يحق لأحد أن يفتئت عليها أو يفرض ما يناقض ويعارض مرجعيتها الدستورية. وإن اختارت شيئا آخر غير المرجعية الإسلامية؛ فيجب احترام خيارها ولا يجوز قهرها وإجبارها بشيء لا تؤمن به، لأنه لا خير في قيم ومبادئ لا تؤمن بها الشعوب ولا تتمثلها وتطبّقها إلا خوفا ونفاقا وتقيّة".
ثم قوله بعد ذلك مباشرة: "لا يعني أن الشعب هو معيار المبادئ والقيم والأخلاق كما يتصور البعض. بل المعيار من حيث المنطق المعرفي هو المرجعية التي يؤمن بها الإنسان سواء كانت دينية عقدية/ أو فلسفية وضعية، ومعرفة الحلال والحرام في الإسلام لا يكون من خلال الاستفتاء الشعبي وإنما من خلال مصادر التشريع في الإسلام وعلى رأسها الكتاب والسنة".
حقيقة أجد صعوبة بالغة في رؤية التوافق بين التقريرين السابقين، ففي الأول "الأكثرية" هي من تعطي الشرعية لمنظومة القيم الإسلامية بل للشريعة نفسها، أي بكل وضوح "الأكثرية" هي معيار شرعية الأخلاق والقوانين والقيم. لكن في التقرير الثاني "الأكثرية" ليست هي معيار المبادئ والقيم والأخلاق! حقيقة احتاج إلى مساعدة لفهم كيفية التوافق بين هذين التقريرين.
فإذا كانت الأمة لها الحرية والحق في اختيار الشريعة [منظومة القيم والمبادئ الإسلامية كمرجعية عليا وإطارا للتشريع والقوانين] أو نبذها، فكيف لا يكون "الشعب هو معيار المبادئ والقيم والأخلاق"؟! وهو نفسه المعيار في تحديد المرجعية نفسها، وهي مرجعية الأخلاق والقانون! وحينما يُقال: إن "معرفة الحلال والحرام في الإسلام لا تكون من خلال الاستفتاء الشعبي وإنما من خلال مصادر التشريع في الإسلام وعلى رأسها الكتاب والسنة". فما المقصود من هذا الكلام؟ نحن بين خيارين اثنين: الأول: أن يكون هذا الكلام مجرد محاولة تعريف القارئ أنَّ الحلال والحرام في الإسلام يكون من خلال الكتاب والسنة، وهذا في الحقيقة تعريف للمعروف لا فائدة منه. والثاني: أن يكون الكلام تقريرًا لكون الاستفتاء الشعبي ليس مصدرًا للحلال والحرام عند المسلمين أنفسهم، ومن ثمة فلا يجوز للأمة أن تختار منظومة القيم والمبادئ المخالفة للإسلام كمرجعية عليا وإطارا للتشريع والقوانين. فإذا تقرر هذا فقد نُقض الكلام كله ومن أساسه!
إنَّ القوانين إنما تصدر في أغراضها وغاياتها عن القيم والمبادئ الأخلاقية، فمحيط القانون جزء من محيط الأخلاق، أو كما أوضح "مونتيسكيو" في كتابه "روح القوانين" أن الشرائع في كل مجتمع وليدة عاداته وهي مصدره. فالقوانين تأتي لتنقل القيمة أو الخلق إلى حيز التنفيذ أو الاحترام أو الاعتبار. وعليه، فإن من شرَّعَ قانوناً يحرِّمُ أمراً ما، فمن المفترض أنه يفعل هذا لأنه رأى هذا الأمر قبيحاً يستحق الحظر والمنع. فمن هنا صار الذي يعلق التشريعات على نتائج التصويت قد أعطى الناسِ حقَّ التحريم والتحليل، وجعلهم هم المرجع في تعيين الحلال والحرام على مستوى الجماعة.
إن مبدأ "سيادة الأمة" ليس مبدأ إسلاميًا من الأساس، بل هو من مبادئ الأنظمة الوضعية التي أعطت "الحاكمية العليا" "للأمة=الأكثرية"، وهذا ما يتصادم مع الإسلام. ولما لم تكن أوروبا المسيحية محكومة "بسيادة الشريعة"، فقد كانت محكومة "بسيادة الكنيسة" أو"سيادة الملكيات"، والجميع يدعي الحكم باسم "الحق الإلهي"، فما كان من الشعوب الأوروبية إلا أن استبدلت ذلك بسيادتها على نفسها، وأعطت نفسها صفة الحاكمية المطلقة، فهم الذين يُقررون ويشرعون القوانين، وهم معيار ما هو خُلقي وما هو غير خُلقي، فالشذوذ مثلاً كان غير شرعي لكن الشعب قرر أن يجعله مباحًا فكان مُباحًا، فصار الشعب هو الشريعة.
هذا الواقع الأوروبي المبهر صار له ضحايا من المسلمين، وأصبحوا مرتهنين لمنظمة المفاهيم الغربية، وأصبحت قراءة المراجع الدينية تتم بعيون غربية، حتى يُخيل إليك وأنت تقرأ ما سرد بعضهم من الآيات للتدليل على "سيادة الأمة" وكأنك تقرأ كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبدالرازق وهو يُقرر أنه لا يوجد في الإسلام نظام سياسي للحكم!
قهر الواقع بالإضافة إلى الانبهار بالغرب والنموذج الغربي "أدى إلى هزيمة عقل الأمة ومن العقول المهزومة ظهر فريق يحاول أن يتحد مع المنتصر ويتبنى حضارة الغرب...كانت الصدمة سببا في الالتحاق بالغرب ونقل قيمه وأفكاره ونموذج حياته، وكانت الدعوة للحرية الغربية تجد طريقها لدى النخبة المثقفة"، كما يقول المفكر المسيحي المصري "رفيق حبيب".
إن أخشى ما أخشاه على هؤلاء الأخوة الفضلاء أن يكون الحق السياسي والإنساني دافعًا لهم، من حيث لا يشعر بعضهم، إلى تحطيم الشريعة، وتكرار ما حصل بشكل متكرر في تاريخنا الإسلامي بل والإنساني، وذلك من خلال لجوء الإنسان المقهور إلى تحطيم أقل العدوين خطرًا عليه، المرجعية الدينية لا السلطة السياسية. فهو لا يمتلك الشجاعة الكافية لمواجهة السلطة السياسية، فيتوجه بسهامه إلى المرجعية الدينية بل للشريعة نفسها، تحت أسماء مختلفة مثل: السلفية، أهل السنة والجماعة، تطبيق الشريعة.
ثم يجعل هدفه الأول، أو سمه التكتيكي، نقض وتفكيك المرجعية الشرعية التي تُعطي -كما يزعم- السلطة السياسية القاهرة الشرعية الإلهية، ففي هذه المرحلة، كما صرح البعض، يجب التوجه لتفكيك ونقد ونقض السلفية كإطار مرجعي شرعي، أما السلطة السياسية فلا يشملها الآن التفكيك، لأنه كما يُقال فكك الإطار وسوف تسقط الصورة حتمًا. لكن ماذا لو كانت النتيجة تحطيم الإطار ثم بقاء الصورة منحوتة على الجدار!
إن العاقل يفهم لماذا أصبحت "سيادة الأمة" هي السلطة العليا في الغرب، فالغرب يفصل بين الدين والدولة، فلا بد حينئذ من أقرار سيادة الشعب، إذ أن الدولة ليست دينية ولا محكومة بشريعة الله. لكن الدولة المسلمة مهمتها هي حراسة الدين وحراسة الشريعة، لا تخيير الشعب أو الاستناد إلى اختياره في تقرير شرعية أو عدم شرعية الشريعة.
في مبدأ "سيادة الأمة" تكون الأمة أو "الأكثرية" هي السلطة العليا التي لا تعرف سلطة أعلى منها، حتى الشريعة نفسها، فلو قررت الأكثرية إباحة المحرمات وتحريم الحلال، بل نبذ الشريعة جملة وتفصيلاً فلها الحق في ذلك، فهي السلطة العليا ولا يوجد أعلى منها. أو كما عبر أحد الفضلاء من أنصار مبدأ "سيادة الأمة" بكل وضوح أنه إذا "اختارت الأمة غير المرجعية الإسلامية؛ فيجب احترام خيارها ولا يجوز قهرها وإجبارها".
وفي الأنظمة السياسية الوضعية تكون الصفة الأصلية للسيادة هي سلطة وضع القوانين، أي التشريع، ولا يُمكن أن يُفرض عليها أي التزامات من قبل أي سلطة، ولذا لا يُمكن أن يكون هناك أكثر من سيادة، والسيادة لا تقبل التجزئة، فالسلطة العليا واحدة، وهي أيضًا غير قابلة للتنازل، فلا يحق لصاحبها أن يتنازل عنها. وأظن أن بعض الذين يرون "سيادة الأمة" خلطوا بين السيادة كسلطة عليا لا شيء فوقها، وبين بعض مهام الأمة السياسية في الإسلام، فطردوا سلطة "سيادة الأمة" حتى جعلوها-دون مبالغة- نفس سلطة الله سبحانه وتعالى في التشريع.
إن الأمة ليست حرة بمجموعها أو بإفرادها بل الجميع مقيد بأحكام الشريعة لا يسعه الخروج عنها فضلا أن يجعل الشريعة محلا للاقتراع. فالشريعة حاكمة على المسلم فردًا أو دولة لا يسع أحد منهم سن قانون يُخالفها فضلاً عن أن يطرحها بالكلية!
قال الحق سبحانه وتعالى: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) أي أن السلطة العليا والسيادة هي لحكم الله، وقال: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) أي المرجع السيادي لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يقل سبحانه فحكمه إلى الشعب أو "سيادة الأمة"، ولم يقل ردوه إلى "سيادة الأمة"، فضلاً أن يقول سبحانه وتعالى إذا "اختارت أمتكم غير كتابي وسنة نبيي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فيجب احترام خيارها ولا يجوز قهرها وإجبارها".
في الختام، هذه كلمة موجهة للعلماء وطلاب العلم للالتفات إلى أهمية هذه المواضيع وخطورة الواقع وما يفرزه على الشباب والنابهين، وهذا يحتم على العلماء وطلاب العلم أن يتصدر اهتمامهم هذا الموضوع دراسة وتحليلا وتقييم ونقدًا، فأثمن ما لدى المسلم هو شريعة الإسلام، وهي مقدمة على أي مصلحة دنيوية، وإذا لم يوجد من العلماء وطلاب العلم من يتصدى بعلم وحكمة لمثل هذه المواضيع فإن الوضع خطر، وهو كما قال "ابن قيم الجوزية" أنه حينما تنزل بالأمة فتن عقائدية أو فكرية ولم يجدوا من العلماء فكرًا أو سيرة يتخذونه نموذجًا، فإن أذكياء الأمة قد يصبحون زنادقة.
وحقيقة لا بد من الاعتراف بها هنا، وهي أنه بسبب قهر الواقع واستلاب الحقوق والظلم وعدم وجود نماذج دينية نزيهة كافية، فإنَّ أعداد الشباب الذين لديهم الاستعداد "لقبول العدل والحرية والمساواة تحت أي مسمى" تزداد، وأصبحت "الحرية" و"العدالة" و"المساواة" الثالوث المقدسة لدى بعضهم، وهي مقدمة على الشريعة نفسها، والله المستعان.
قال تعالى: (وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك).
الشيخ عايض الدوسري