جعل الله عز وجل الفشل قرينًا للتنازع، والاحتلال ملازمًا للوهن،
وسنة الله في خلقه لا تتبدل ولا تتغير، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ
تَبْدِيلًا}[الأحزاب: 62].
بدأ التتار يُفَكِّرُون جدِّيًّا في غزو بلاد المسلمين، وبدءوا
يُخَطِّطُون لإسقاط الخلافة العباسية، ودخول بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية،
وفكَّر «جنكيزخان» في أن أفضل طريقة لإسقاط الخلافة العباسية في العراق هي التمركز
أولاً في منطقة أفغانستان وأوزبكستان؛ لأن المسافة كبيرة بين الصين والعراق، ولا
بُدَّ من وجود قواعد إمداد ثابتة للجيوش التترية في منطقة متوسطة بين العراق
والصين، كما أن هذه المنطقة التي تُعرف بالقوقاز غنية بثرواتها الزراعية
والاقتصادية، وكانت من حواضر الإسلام المشهورة، وكنوزها كثيرة، وأموالها وَفيرة،
هذا إضافة إلى أنه لا يستطيع -تكتيكيًّا- أن يُحارب العراق وفي ظهره شعوب مسلمة قد
تُحاربه أو تقطع عليه خطوط الإمداد.
كل هذه العوامل جعلت «جنكيزخان» يُفَكِّر أولاً في
خوض حروب متتالية مع هذه المنطقة الشرقية من الدولة الإسلامية، التي تُعرف في ذلك
الوقت بالدولة الخُوارِزمية؛ وكانت تضم بين طياتها عدَّة أقاليم إسلامية مهمَّة،
مثل: أفغانستان وأوزبكستان وتركمنستان وكازاخستان وطاجكستان وباكستان وأجزاء من
إيران، وكانت عاصمة هذه الدولة الشاسعة هي مدينة «أورجندة (الجُرْجانِيَّة[1])»
(في تركمنستان حاليًّا).
وكان جنكيزخان في شبه اتفاق مع ملك خُوارِزم (محمد بن خُوارِزم
شاه[2]) على حُسن الجوار[3]، ومع ذلك فلم يكن جنكيزخان من أولئك الذين يهتمُّون
بعقودهم، أو يحترمون اتفاقياتهم، ولكنه عقد هذا الاتفاق مع ملك خُوارِزم ليُؤَمِّن
ظهره إلى أن يستتب له الأمر في شرقيِّ آسيا، أما وقد استقرَّت الأوضاع في منطقة
الصين ومنغوليا، فقد حان وقت التوسُّع غربًا في أملاك الدولة الإسلامية! ولا مانع -عنده طبعًا- من
نقض العهد، وتمزيق الاتفاقيات السابقة؛ وهي سُنَّة في أهل الباطل: {أَوَكُلَّمَا
عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ
يُؤْمِنُونَ}[البقرة: 100].
ولكن حتى تكون الحرب مُقنعة لكلا الطرفين، لا بُدَّ من وجود سبب
يدعو إلى الحرب، وإلى الادِّعاء بأن الاتفاقيات لم تَعُدْ
سارية، وقد بحث «جنكيزخان» عن سبب مناسب، ولكنه لم يجد. ولكن -سبحان الله- لقد حدث
أمر مفاجئ -بغير إعداد من جنكيزخان- يصلح أن يكون سببًا مقنعًا للحرب.
نعم، لقد جاء هذا السبب مبكِّرًا بالنسبة إلى إعداد جنكيزخان
ورغبته، ولكن لا مانع من استغلاله، ولا مانع -أيضًا- من تقديم بعض الخطوات في
خُطَّة الحرب، وتأخير بعض الخطوات الأخرى. لقد ذهبت مجموعة من تجَّار
المغول إلى مدينة «أوترار (أطرار)» الإسلامية في مملكة خُوارِزم شاه.. ولما رآهم
حاكم المدينة المسلم، أمسك بهم وقتلهم[4]!
أمَّا عن سبب قتلهم.. فقد اختلف المؤرخون في تفسير هذه الحادثة:
فمنهم مَنْ يقول: إن هؤلاء ما كانوا إلاَّ جواسيس أرسلهم جنكيزخان
للتجسُّس على الدولة الإسلامية أو لاستفزازها؛ لذلك قتلهم حاكم مدينة أوترار.
ومنهم مَنْ يقول: إن هذا كان عمدًا كنوع من الردِّ على عمليات
للسلب والنهب قام بها التتار في بلاد ما وراء النهر، وهي بلاد خُوارِزمية مسلمة.
ومنهم مَنْ يقول: إن هذا كان فعلاً متعمدًا بقصد استثارة التتار
للحرب؛ ليدخل خُوارِزم شاه بعد ذلك منطقة تركستان، وهي في ملك التتار آنذاك. وإن
كان هذا الرأي مستبعدًا؛ لأن «محمد بن خُوارِزم شاه» لم تكن له أطماع تُذكر في أرض
التتار، وكل ما كان يُريده هو العهد على بقاء كل فريق في مملكته دون تعدٍّ على
الآخر، وليس من المعقول أن يستثير التتار؛ وهو يعلم أعدادهم وجيشهم، وليس من
المعقول -أيضًا- أنه لم يكن يدري عن قوَّتهم شيئًا وهم الملاصقون له تمامًا، وقد
ذاع صيت زعيمهم «جنكيزخان» في كل مكان.
ومن المؤرخين -أيضًا- مَنْ يقول: إنما أرسل جنكيزخان بعضًا من
رجاله إلى أرض المسلمين ليقتلوا تجار التتار هناك؛ حتى يكون ذلك سببًا في غزو
البلاد المسلمة، وإن كان هذا الرأي لا يقوم عليه دليل. ومنهم مَنْ قال: إن
خُوارِزم شاه طمع في أموال التجار فقتلهم لأجلها
كل هذه احتمالات واردة؛ لكن المهم في النهاية أن التجار (أو
الجواسيس) قد قُتلوا، ووصل النبأ إلى جنكيزخان، فأرسل رسالة إلى «محمد بن خُوارِزم
شاه» يطلب منه تسليم القتلة إليه حتى يُحاكمهم بنفسه، ولكن «محمد بن خُوارِزم شاه»
اعتبر ذلك تعدِّيًا على سيادة البلاد المسلمة؛ فهو لا يُسَلِّم مجرمًا مسلمًا
ليُحاكم في بَلدة أخرى بشريعة أخرى، غير أنه قال: إنه سيُحاكمهم في بلاده؛ فإن ثبت
بعد التحقيق أنهم مخطئون عاقبهم في بلاده بالقانون السائد فيها وهو الشريعة
الإسلامية.
وهذا الكلام وإن كان منطقيًّا ومقبولاً في كل بقاع الأرض؛ فإنه
بالطبع لم يكن مقنعًا لجنكيزخان، أو قل: إن جنكيزخان لم يكن يرغب في الاقتناع؛
فليس المجال مجال حجة أوبرهان أو دليل؛ حقيقة الأمر أن جنكيزخان قد أعدَّ لغزو
بلاد المسلمين خُططًا مسبقة، ولن يُعَطِّلها شيء، وإنما كان يبحث فقط عن علَّة
مناسبة، أو شبه مناسبة، وقد وجد في هذا الأمر العلَّة التي كان يُريدها.
وبدأ الإعصار التتري على بلاد المسلمين!
بدأت الهجمة التترية الأولى على دولة خُوارِزم شاه، وجاء جنكيزخان
بجيشه الكبير لغزو خُوارِزم شاه، وخرج له «محمد بن خُوارِزم شاه» بجيشه أيضًا،
والتقى الفريقان في موقعة شنيعة استمرَّت أربعة أيام متصلة، وذلك شرق نهر سيحون
(وهو يعرف الآن بنهر «سرداريا»، ويقع في دولة كازاخستان المسلمة)، وقُتل من
الفريقين خلق كثير؛ لقد استُشهد من المسلمين في هذه الموقعة عشرون ألفًا، ومات من
التتار أضعاف ذلك، ثم تحاجز الفريقان، وانسحب «محمد بن خُوارِزم شاه» بجيشه؛ لأنه
وجد أن أعداد التتار هائلة، وذهب ليُحَصِّن مدنه الكبرى في مملكته الواسعة (وخاصة
العاصمة: أورجندة)، كان هذا اللقاء الدامي في عام (616هـ=1219م)[5].
انشغل «محمد بن خُوارِزم شاه» في تحضير الجيوش من أطراف دولته،
ولكن يجب ألا ننسى أنه كان منفصلاً -بل معاديًا- للخلافة العباسية في العراق،
ولغيرها من الممالك الإسلامية؛ فلم يكن على وفاق مع الأتراك ولا مع السلاجقة ولا
مع الغوريين في الهند، وهكذا كانت مملكة خُوارِزم شاه منعزلة عن بقية العالم
الإسلامي، ووقفت وحيدة في مواجهة الغزو التتري المهول. هذه المملكة وإن كانت
قوية، وتمكَّنت من الثبات في أول اللقاءات؛ فإنها -ولا شكَّ- لن تصمد بمفردها أمام
الضربات التترية المتوالية.
وفي رأيي أنه مع قوَّة التتار وبَأسهم وأعدادهم؛ فإن سبب المأساة
الإسلامية بعد ذلك لن يكون في الأساس بسبب هذه القوَّة، وإنما سيكون بسبب الفُرقة
والتشتُّت والتشرذم بين ممالك المسلمين، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَلاَ
تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ}[الأنفال: 46]. فجعل الله عز وجل الفشل
قرينًا للتنازع؛ والمسلمون كانوا في تنازع مستمرٍّ، وخلاف دائم، وعندما كانت تحدث
بعض فترات الهدنة في الحروب مع التتار -كما سنرى- كان المسلمون يَغِيرُون على
بعضهم، ويأسرون بعضهم، ويقتلون بعضهم! وقد عُلم يقينًا أنَّ مَنْ كانت هذه صفتهم،
فلا يُكتب لهم النصر أبدًا.
عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «...
وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لأُمَّتِيأَنْ لاَ يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ[6]
وَأَنْ لاَ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ
بَيْضَتَهُمْ[7]، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ؛ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ
قَضَاءً فَإِنَّهُ لاَ يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لأُمَّتِكَ أَنْ لاَ
أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لاَ أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ
سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ
بِأَقْطَارِهَا -أَوْ قَالَ: مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا- حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ
يُهْلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا»[8].
فالمسلمون كانوا -في تلك الآونة- يُهلك بعضهم بعضًا، ويسبي بعضهم
بعضًا؛فلا عجب إن غلب عليهم جيش التتار أوغيرهم
إضافة إلى داء الفُرقة فإن هناك خطأ واضحًا في إعداد «محمد بن
خُوارِزم»، وهو أنه مع اهتمامه بتحصين العاصمة «أورجندة»؛ فإنه ترك كل المساحات
الشرقية من دولته دون حماية كافية! ولكن لماذا يقع قائد محنَّك خبير بالحروب في
مثل هذا الخطأ الساذج؟!
الواقع أن الخطأ لم يكن تكتيكيًّا في المقام الأول، ولكنه كان خطأ
قلبيًّا أخلاقيًّا في الأساس؛ لقد اهتمَّ «محمد بن خُوارِزم» بتأمين نفسه وأسرته
ومقرَّبيه، وتهاون كثيرًا في تأمين شعبه، وحافظ على كنوزه وكنوز آبائه، ولكنه أهمل
الحفاظ على مقدَّرات وأملاك شعبه، وعادة ما يسقط أمثال هؤلاء القادة أمام الأزمات
التي تعصف بأممهم، وعادة ما تسقط -أيضًا- الشعوب التي تقبل بهذه الأوضاع المقلوبة
دون إصلاح؛ ولننظر ماذا تحمل الأيام لمحمد بن خُوارِزم وشعبه!